أشك في أن ضمان الأمن والاستقرار في منطقة وادي النيل يمر بشكل حتمي عبر بوابة توافق الدول الثلاث المعنية بملف أزمة "سد النهضة" الاثيوبي، على تسوية ترضي جميع الأطراف بشان ملء السد واستراتيجية إدارة المياه بما يحقق مصالح شعوب الدول الثلاث. وبخلاف ذلك، يصبح الحديث عن الاستقرار والتعاون المشترك مجرد كلام لا معنى له، وبالتالي يصبح الحوار، سواء بشكل مباشر أو بدعم وسطاء دوليين، هو السبيل الأمثل لمناقشة نقاط الخلاف والتوصل إلى حلول توافقية بشأنها، كما تصبح الحلول الفردية حواجز جديدة تضعف فرص الحل، وتضيف صعوبات جديدة أمامه.

السياسة دائماً هي فن الممكن وليس فن الحصول على كل شىء، فهي الوسيلة الوحيدة لتقريب الفرقاء، الذي لا يمكن أن يحدث سوى بتنازلات وتفاهمات متبادلة، وفق قاعدة لا غالب ولا مغلوب، ففي منطق السياسة لا أحد يحصل على كل شىء، ولا أحد يخسر كل شىء. وفي ضوء ماسبق فإن تطورات الموقف في أزمة سد النهضة لا تبدو مريحة لكل مهتم بالأمن القومي العربي، لأن هناك تباعد في المواقف وتجمّد في الأزمة من المفاوضات التي شاركت فيها الولايات المتحدة والبنك الدولي ولم تفلح في معالجة الخلاف بين الدول الثلاث، وهناك تصاعد في لغة الحوار والمذكرات التي تبعث بها الأطراف المعنية للمنظمات الدولية.

يقول الجانب الاثيوبي في أخر تصريحاته على لسان وزير المياه والري والطاقة، سيليشي بقيلا، أن بلاده سوف تبدأ في التعبئة الأولية لخزان السد، في يوليو المقبل، أي بعد نحو شهر من الآن، وأن السد لا يتسبب في أي ضرر لأي من مصر والسودان. وهذا الكلام يبدو خالياً من الواقعية السياسية، لأن الأمر ببساطة لو كان كذلك لما شغلت مصر نفسها بالموضوع الذي تعتبره مساساً بأمنها القومي.

الأطراف الدولية من جانبها تحث الدول الثلاث على التعاون وتعزيز الثقة المتبادلة باعتبارها أمراً ضرورياً لاستقرار المنطقة بأسرها، والحقيقة أن هناك إعلان للمبادىء تم توقيعه عام 2015 بشأن مشروع بناء السد، ومن الضروري الاحتكام إلى بنود هذا الاعلان الذي يؤكد على التعاون القائم على التفاهم المشترك والمنفعة المتبادلة وحسن النوايا وتطبيق مبادىء القانون الدولي، والمسألة هنا لا تخضع لمنطق آخر سوى منطق التعاون، فالاحتكام للأمر الواقع ينسف مبادىء هذا الاعلان وربما يدفع بأي من الأطراف المتضررة إلى السعي لضمان مصالحها الاستراتيجية بأدوات ووسائل تربك حسابات الأمن والاستقرار الاقليمي والدولي.

السودان من جانبه رفض مؤخراً طلب إثيوبيا توقيع اتفاق دون مصر لملء سد النهضة، وكشف أنه سيتخذ تحركات لإعادة المفاوضات بين أطراف الأزمة، وهو موقف عقلاني وموضوعي للغاية يفترض أن يشجع اثيوبيا على مراجعة موقفها والاحتكام لمبادىء اعلان 2015، وأن تدرك أن الفشل المتكرر لجولات التفاوض حول أزمة السد لا تعني نهاية الأزمة، وانتفاء أي حلول لها، بل تعني أن هناك حاجة لمزيد من التفاهم والخضوع لمنطق السياسة والمصالح المشتركة، لا سيما أن الجانب المصري لا يسعى للإضرار بالمصالح الاثيوبية بل يحاول ضمان حد معين من مصالح شعبه، ومن ثم يفترض أن يراعي طرف حساسيات بقية الأطراف من النواحي الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية والتاريخية.

وإذا كان رئيس الوزراء الاثيوبي آبي أحمد، الحائز على جائزة نوبل للسلام، هو أحد أبرز الشخصيات الافريقية القادرة على لعب دور الوساطات ونزع فتيل التوترات في الأزمات، فإن من المهم أن يوظف هذه القدرات السياسية في التوصل إلى تسوية توافقية لأزمة السد مع مصر والسودان، وأن يدرك أن العامل الأساسي في التوتر الراهن يتمثل في سوء الإدراك المتبادل لحساسيات ومصالح كل طرف، وأن الاعتماد على أي سند قانوني في إدارة هذه الأزمة ليس كافياً للخروج منها، وأن الاصرار على ملء خزان السد من دون توافق ثلاثي يفاقم الأزمة ويدفع بالأمور إلى أجواء أكثر سخونة يصعب فيها الحوار والتفاهم، ويصبح التراجع عة الخطوات مسألة في غاية الصعوبة بما يجعل الأمر برمته على حافة الهاوية.

قضايا بناء السدود ليست شأناً سيادياً لدولة أن تقرر فيه ماتشاء بمفردها، ولكنه أمر خاضع للقانون الدولي، وهناك مبادىء وأعراف وقوانين وخبرات وسوابق دولية متراكمة تنظم هذا الأمر، وبالتالي فإن محاولة التشبث بسياسة الأمر الواقع ، والحديث عن شرعية سيادية لقرارات أي طرف في هذه الأزمة الثلاثية لا معنى فعلي له، والحقيقة أنه قد حاون الوقت لمجلس الأمن الدولي كي يثبت أهميته ويسهم في حل أزمة معقدة كهذه بدلاً من الاكتفاء بتقلي مذكرات الأطراف والدعوة للبحث عن حلول دون بذل ما يلزم من جهد دولي لفرض حل يحول دون تصعيد الأزمة وانزلاق الأمور.
العالم مشغول بأزمة كورونا وتبعاتها الكارثية، ولكن المنظمات الدولية لا يجب ان تنشغل عن إدارة شؤون العالم، ويجب على طرف في هذه الأزمة قراءة المعطيات بشكل حذر للغاية، والتفرقة بين ماهو استراتيجي وماهو تكتيكي، واستشعار أولويات الأمن القومي لبقية الأطراف، وأن يدرك أن الانشغال بقضايا داخلية كبرى لا يخفي الأولويات بل يمكن ان يعيد ترتيبها، خصوصا ما يتعلق بالأمن المائي، الذي بات موضع تركيز جميع الباحثين والمراقبين، كسبب من أهم أسباب إندلاع الحروب في مناطق شتى من العالم خلال السنوات والعقود المقبلة، وعندما يقول طرف ما أن المسألة "حياة أو موت" بالنسبة له فعلى الجميع الانصات جيداً وتفادي اتخاذ أي خطوة غير محسوبة قد تعجل بالخيارات غير المرغوبة، فمن العقل والحكمة ألا تضع خصمك في زاوية حرجة ثم تطالبه بالبحث عن مخرج آمن، ومن ثم فإن السياسة في هذه الظروف هي طوق النجاة الوحيد من أجل العيش المشترك وضمان مستقبل آمن للملايين من أبناء وادي النيل.