اعتاد زعماء العالم أن يلقوا خطابات التهنئة بمناسبة الأعياد الدينية ويزفوا من خلالها بعض البشائر لإسعاد قلوب شعوبهم بتلك المناسبات. حتى الدكتاتور صدام حسين الذي حكم شعبه بالحديد والنار، كان في أيام الحصار الإقتصادي المفروض على العراق في التسعينيات من القرن الماضي يعلن على الأقل إضافة دجاجتين على البطاقة التموينية بمناسبة حلول الأعياد!.
على العكس من هؤلاء تكرم السيد مسرور البارزاني رئيس حكومة إقليم كردستان بإلقاء خطاب مفعم بالتشاؤم والإحباط تمحور حول الأزمة المعيشية الخانقة التي تواجه شعب كردستان هذه الايام بسبب السياسات النفطية الفاشلة التي إعتمدتها الحكومة الكردية سابقا، والتي تسببت في ضائقة إقتصادية مخيفة بحيث لم يعد موظف الحكومة يأمن حتى على رواتبه الشهرية!. فجدير بالذكر أن موظفي الإقليم لم يستلموا رواتبهم للأشهر الأربعة الماضية من العام الجديد، حيث تم صرف راتب واحد لشهر كانون الثاني الماضي فقط ونحن الان في الشهر الخامس من العام!.
عزا رئيس الحكومة أسباب الضائقة الى إمتناع بغداد عن تمويل رواتب موظفي كردستان في السنوات السابقة، وكعادة السلطة الفاشلة للحكم في الإقليم علق السيد البارزاني مسؤولية الأزمة المالية على شماعة كورونا وتدني أسعار النفط العالمية كما كانت الحكومة السابقة تعلق أزماتها المالية على شماعة حرب الداعش وتدفق النازحين الى مدن الإقليم، علما بأن مصاريف داعش والنازحين كانت تدفع من قبل دول التحالف والمنظمات الدولية وليس من قبل حكومة الإقليم. بالاضافة الى ذلك فإن الضائقة الحالية ليست وليدة جائحة كورونا ولا تدني أسعار النفط، فالمشكلة قائمة منذ عام 2015 حين لجأت حكومة الإقليم الى تقليل رواتب موظفيها بحجة قطع حصة الإقليم من موازنة الدولة.

لم أرد في الآونة الأخيرة الدخول في مماحكات أو مناقشات حول الأوضاع المعيشية المتأزمة بكردستان، ليقيني بأن الحديث والكتابة عن هذه الأزمة لاتفيد مع السلطة الحاكمة. والأهم من ذلك أن أي مقال نقدي نكتبه ضد هذه السلطة سينبري المئات من مرتزقتها وأقلامها المأجورة لتوجيه الإتهامات الباطلة ضدنا وتخويننا، أو حتى تجريمنا والمطالبة بقتلنا لإسكات أصواتنا، على الرغم من أن ما نكتبه من على هذا المنبر هو الحقيقة الواضحة لما يعانيه أبناء شعبي داخل إقليم كردستان، ولكن الذي شجعني على العودة للكتابة بشأن هذه الأزمة هو الخطاب الأخير للسيد رئيس حكومة الإقليم مسرور البارزاني الذي هو شاهد من أهلها. فماذا قال السيد البارزاني؟؟.

إعترف بشكل واضح وجلي بفشل السياسة النفطية المستقلة التي إنتهجتها الحكومات السابقة للإقليم، وجميعها حكومات ترأسها نيجيرفان البارزاني نائب رئيس حزبه الديمقراطي الكردستاني، وابن عمه وصهره، ماعدا سنتين أدارهما الدكتور برهم صالح!. وقال بأن الإعتماد على الإيرادات النفطية فقط دون إحياء البنية التحتية كان خطأ فادحا، كاشفا أن ميزانية الإقليم تذهب نسبة 80% منها الى رواتب موظفي الحكومة في وقت أن هذه الشريحة لاتشكل سوى نسبة 20% من السكان!.

وأطلق قنبلة مدوية حين كشف لأول مرة بأن حكومة الإقليم ترزح تحت ديون تقدر بـ27 مليار دولار هي ديون تراكمت على كابينته الوزارية الحالية من الكابينات السابقة!.

والأهم من ذلك كشف عن مأساة حقيقية فيما يتعلق بالسياسة النفطية التي طبلت وزمرت لها حكومات حزبه بأنها تهدف الى تحقيق إستقلالية إقتصادية عن بغداد حين قال، ان الإيرادات النفطية حين وصلت الى 700 مليون دولار، كان أكثر من نصف هذا المبلغ المقدر بـ400 مليون دولار تذهب للشركات النفطية المتعاقدة مع حكومة الإقليم عن أجور الإستخراج والتسويق. مشيرا الى أن ما تحقق لحكومة الإقليم في الشهر الماضي من الإيرادات النفطية عن مجمل عمليات تصديرها بلغت فقط 30 مليون دولار بسبب تدني أسعار النفط العالمية، في حين أن الحكومة تحتاج شهريا الى 700 مليون دولار لدفع رواتب موظفيها فقط!!!!.

تجدر الإشارة الى أن عدد موظفي حكومة الإقليم يبلغ مليون ومائتان وخمسون ألف موظف، تم تعيين أكثرهم في السنوات العشر الأخيرة وأغلبهم من العناصر الحزبية التابعة للسلطة بقصد شراء ولاءاتهم ويسمون بالموظفين ( الفضائيين ) بمعنى أنهم يستلمون الرواتب من الحكومة دون ان يداوموا في دوائر الدولة ويستخدمون في أيام الإنتخابات للتصويت للأحزاب الراعية لهم!!!.

في عام 2008 وفي بواكير توجه الحكومة نحو إستخراج النفط الكردي وبيعه، كتبت في هذا المنبر ( ايلاف ) مقالا مازال موجودا في أرشيف الموقع، قلت فيه " أن حكومة الإقليم ترتكب خطأ فادحا حين تستخرج هذا النفط بغرض تسويقه وبيعه، وقلت بأنه مادامت الحكومة المركزية في بغداد ترسل سنويا نسبة 17% من موازنة الدولة كحصة للإقليم والتي كانت تقدر بحوالي 12-14 مليار دولار سنويا، فإن الإقليم ليس بحاجة الى إستخراج نفطه. وقلت يفترض بأن تبقى هذه الثروة كامنة في باطن الأرض لكي تستفيد منها الأجيال القادمة. لكن ظهر بأن الهدف لم يكن تكريس تلك الثروة للشعب، بل سرقتها وتحويل إيراداتها الى حسابات بنكية في الخارج لصالح أقطاب السلطة!!.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو، هل أن حكومة الإقليم صدرت النفط، أم أنها إستوردته حتى تكون مدينة بـ 27 مليار دولار؟؟!!. ثم إذا كانت حكومة الإقليم تجني فقط ثلاثين مليون دولار من تصدير مايقرب من نصف مليون برميل من النفط خلال شهر كامل، فما الجدوى من إستخراج وتسويق النفط أصلا؟؟!!

والأهم من ذلك، فبرغم كل تبجحات نظام البارزاني في السابق بصوابية سياسته النفطية المستقلة، كيف أجاز رئيس الحكومة السابق ووزير موارده النفطية لنفسيهما أن يتجردا من ضميرهما الإنساني ومن أي إنتماء وطني و يوقعا كل هذه الإتفاقيات المجحفة بحيث تسمح للشركات الأجنبية بأن تستحوذ على 60% من إيرادات النفط ولا تبقي سوى على نسبة 40% من تلك الإيرادات لحكومة الإقليم صاحبة الثروة النفطية؟؟ فكيف أجازا لنفسيهما أن يفرطا بهذه الثروة الوطنية بهذا الشكل المخجل والمتجرد من أي شعور بالمسؤولية والأمانة على ثروات الشعب؟؟!!.

قبل ختام خطابه أكد السيد مسرور البارزاني أن مهمة الحكومة ليست فقط توزيع الرواتب على موظفيها. والسؤال البديهي هو، اذن ما هي واجبات الحكومة؟؟!!. وهل يصح أن تتهرب الحكومة عن دفع رواتب موظفيها، في وقت حتى صاحب الدكان لن يتهرب من دفع أجرة العاملين لديه؟؟ ثم ماذا قدمت هذه الحكومة طوال السنوات الثلاثين الماضية من إنجازات في المجالات الخدمية، فهاهي مشكلة الكهرباء مازالت تؤرق المواطنين منذ ثلاثين عاما، وكذلك مشكلة شحة مياه الشرب و الصرف الصحي، فإذا كانت مهمات الحكومة ليست دفع الرواتب ولا تنفيذ مشاريع خدمية، فما هي واجباتها اذن؟؟!!!.

أما في ختام خطابه يعود السيد مسرور البارزاني ليؤكد " أن الحكومة ترحب بكل إنتقاد أو ملاحظة يتقدم بها الآخرون!!. وهذا كلام فارغ من أساسه بدليل أنني وعشرات الكتاب والمثقفين من امثالي سبق وأن نبهوا حكومة الإقليم الى مخاطر السياسات الفاشلة والإجراءات التعسفية ضد الشريحة المثقفة التي إنتقدت أداء الحكومات السابقة والحالية فلم يكن نصيبهم من كل ذلك سوى الإضطهاد والقمع وزجهم بالسجون وقطع أرزاقهم.. وهكذا جنت براقش على نفسها..