التماسك العرقي للأكراد، لم يحول دون تشتتهم الفكري وانقسامهم السياسي، الى درجة التقاتل والتخوين المتبادل بين الأحزاب والقوى الكردية، مع كل انتكاسة جديدة يتعرض لها الأكراد. كما حصل في العراق بين (حزب الاتحاد الوطني الكردستاني) بزعامة آل الطالباني و(الحزب الديمقراطي الكردستاني) بزعامة آل البرزاني. وكما يحصل في سوريا بين (حزب الاتحاد الديمقراطي) ، وأحزاب( المجلس الوطني الكردي).

التعددية الحزبية المفرطة وتعدد المرجعيات الكردية من خارج الحدود السورية، تُعد من الأسباب الأساسية لحالة التخبط السياسي لأكراد سوريا. تسع سنوات وأكثر مضت على بدء (الحرب السورية) والأكراد السوريين لم يحسموا خياراتهم ورهاناتهم (السياسية والعسكرية). الأكراد، ليسوا مع النظام السوري، لكنهم أبقوا على (شعرة معاوية) معه . رغم بعض المناوشات والاشتباكات العسكرية المحدودة بين قوات النظام والميليشيات الكردية، الأكراد تلقوا مساعدات عسكرية ولوجستية من النظام . خاضا معاً معارك مشتركة ضد عدو مشترك (تركيا - داعش ). خلال السنوات الماضية ، حصلت (جولات تفاوض) مباشرة، برعاية روسية، بين وفود من النظام ووفود من (حزب الاتحاد الديمقراطي) ، بهدف الوصول الى (تسوية سياسية)، فيما يخص ما يسمى بـ"الادارة الذاتية"، التي أعلنها الأكراد في المناطق، التي انسحب منها النظام(غالبية محافظة الحسكة) وسلمها لهم من دون قتال، مع ابقاء النظام على (قواته وجميع المؤسسات والدوائر والمراكز الحكومية ومقرات حزب البعث الحاكم) في أهم مدن المحافظة (القامشلي والحسكة). الأكراد تعاونوا ، بشكل أو آخر، مع القوى الخارجية والاحتلالات الأجنبية المتواجدة على الارض السورية. شاركوا التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا في الحرب على عصابات داعش. اتهموا واشنطن بالتخلي عنهم إبان العدواني التركي " نبع السلام" واحتلال تركيا لتل ابيض وراس العين. قبلها، اتهموا موسكو بالتواطؤ مع تركيا في عدوانها واحتلالها لعفرين . اليوم، الأكراد يحتمون بالقوات الأمريكية والروسية من عدوان تركي جديد محتمل . يحتمون بالمحتل الأمريكي من هجمات متوقعة لقوات النظام على المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وربما ينتظرون من الأمريكان (إخراج النظام من القامشلي ومن كامل منطقة الجزيرة) . انضمام (المجلس الوطني الكردي) الى ما يعرف بـ" الاتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية " لا يعني اطمئنان الأكراد للمعارضات(العربية ، الآشورية ، التركمانية ، الاسلامية) المنضوية في الائتلاف. مع كل خلاف بين المجلس الكردي وهذه المعارضات، يهدد المجلس بالانسحاب من الاتلاف. وقد فعلها وانسحب منه ( الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي)، وسكرتيره العام المرحوم (عبد الحميد درويش ) كان نائب رئيس الاتلاف . باختصار، (البرغماتية وانتهاز الفرص والازدواجية في العلاقة والمواقف ) من ثوابت السياسة الكردية. في اطار هذه المنهجية الكردية ، وافق كل من ( المجلس الوطني الكردي- ANKS) و (حزب الاتحاد الديمقراطي- pyd ) على الدخول في مفاوضات مصالحة وتفاهم، بمباركة ورعاية( أمريكية – فرنسية)، لأجل الخروج برؤية كردية مشتركة لخيارات وبدائل الحل السياسي للمعضلة السورية ولحقوق الأكراد السوريين و تشكيل وفد كردي موحد للمشاركة في مسار الحل السياسي للأزمة السورية. وفق العديد من المصادر، اتفق الطرفان على " أن يكون حكم اتحادي فيدرالي في سوريا... اعتبار الكُرد قومية ذات وحدة جغرافية سياسية متكاملة في حل قضيتهم القومية ... الإقرار الدستوري بالحقوق القومية المشروعة، وفق العهود والمواثيق الدولية ". اللافت والجديد في التفاهمات الكردية " اعتبار الكرد قومية ذات وحدة جغرافية سياسية متكاملة في حل قضيتهم القومية " . يبدو أنهم استعاضوا بهذه المقولة عن ما يزعمونه زوراً بـ" كردستان سوريا "، المثيرة للحساسيات العرقية والمرفوضة من قبل السوريين من غير الكرد.

انفراد الأكراد عن بقية مكونات الشعب السوري بخيار (الفدرالية) لسوريا المستقبل، وهم على يقين تام برفض الشعب السوري(معارضة وموالاة) لـ(فدرالية)تخفي نزعة انفصالية، يعني أنهم(الأكراد) يراهنون على قوى خارجية في تحقيق الفدرالية التي يطمحون اليها . الرهان الكردي هو بالدرجة الأولى على( الولايات المتحدة الأمريكية)، التي جعلت من المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد (شرق نهر الفرات) منطقة نفوذ لها ، حيث أقامت فيها العديد من القواعد العسكرية في اطار الحرب على (تنظيم الدولة الاسلامية – داعش ) الارهابي. رغم انتهاء الحرب على داعش ، أمريكا استقدمت مزيد من التعزيزات العسكرية الى قواعدها ، وقررت السطو على حقول النفط والغاز واستثمارها ، خلافاً للقانون الدولي، الذي يمنع دولة الاحتلال من استثمار ثروات البلاد التي تحتلها . إذا أكراد سوريا يتأملون بأن تفعل أمريكا لهم ما فعلته لأكراد العراق إبان غزوها واحتلالها للعراق (2003- 2011)، فهم مخطئون في تقديراتهم وحساباتهم وفي قراءتهم للوضع السوري ولخريطة التحالفات والمحاور السياسية في المنطقة . سوريا ليست العراق. المناطق الخاضعة لسيطرتهم في الشمال الشرق السوري، الغالبية الساحقة من سكانها هم من المكون العربي. أمريكا ليست وحدها في الميدان السوري، كما كان الحال في العراق. على الارض السورية يوجد اليوم (الى جانب المحتل الأمريكي) المحتل التركي والمحتل الايراني والوصي الروسي، بثقله (العسكري والسياسي)، امتد الى عمق منطقة الجزيرة وأخذ الروس من (مطار القامشلي الدولي) قاعدة عسكرية لهم . اليوم ثمة مصالح مشتركة ونقاط تلاقي بين ( الروس والأتراك والايرانيين ) في رفض ومقاومة السياسات الأمريكية في سوريا والمنطقة . لأجل قطع الطريق على (المشروع الكردي) في سوريا، قامت تركيا باحتلال العديد من المدن والبلدات والمناطق السورية الحدودية كانت تحت سيطرة ما يعرف بـ( قوات حماية الشعب ) الكردية، وأجرت عملية تغير ديمغرافي في هذه المناطق لصالح العنصر العربي والتركماني . عن التحدي التركي للمشروع الكردي، يقول (سمير صالحة - دكتور العلاقات الدولية في جامعة استنبول) في مقاله له بعنوان (أنقرة والحوار الكردي - الكردي في سورية) نشر في موقع العربي الجديد:18 أيار الجاري : " لن تجد القيادة السياسية التركية التي أقنعت واشنطن وموسكو بضرورة القيام بعملياتها العسكرية الواسعة في الشمال السوري، وقلب حسابات حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) هناك، لن تجد صعوبة في إقناعهما مجدّدا باستحالة تقديم مناقشة حقوق الأكراد ورسم الخرائط السياسية والدستورية على حساب الأكثرية السكانية السورية المشرّدة بين لاجئ ونازح...".

. باحث سوري، مهتم بقضايا الأقليات.
[email protected]