عاد البشر اليوم إلى عاداتهم البدائية في ممارسة أنماط خطيرة من التفكير كانت متداولة في عصر ازدهار الأساطير، مثل تلك الأسطورة التي تعتبر أن القربان ضرورة لا غنى عنها تدفعها الضحية نيابة عن بقية الأحياء لدفع غضب الآلهة عن البشر من جهة ولإنقاذ البقية الناجية منهم من الخطر المحدق بها من جهة أخرى.

اليوم يستعيد إنسان العصر السيبرنوطيقي مضمون هذه الأساطير من جديد ودون أدنى حياء إنساني يعترف أنه لكي ينجو النظام الرأسمالي من أزماته المتكررة ويتمكن الاقتصاد من استرداد عافيته وتحقيق انتعاشته المطلوبة ولكي تتعافى أيضا البشرية من صدماتها المالية والنفسية على المسنين من البشر أن يستعدوا للموت من أجل شبابها وأن يكونوا القربان الذي يذبح على معبد الرأسمالية الضخم. وكأن كورونا اليوم تعيدنا إلى نفس هذه الأجواء الأسطورية وحتى التاريخية المتعلقة بمفهوم التضحية وهو ما يدفعنا إلى السؤال التالي ما آثار الفيروس التاجي على فكر البشر وأفعالهم؟

بالطبع نسمع اسهابا في الحديث بين الناس عن طبيعة الفيروس ولو بطريقة يشوبها الكثير من الغموض وعدم الفهم حتى بين المختصين في علم الأوبئة أنفسهم، لكن بقطع النظر عن هذا الجدل الذي يبدو في نظر بعضهم عقيما طالما لا نملك المعطيات العلمية الكافية عن هذا الفيروس، فإن الدرس الحقيقي الذي يجب استخلاصه هنا هو درس اجتماعي وهو درس عن أنفسنا بالأساس.

لقد فتحت أزمة الفيروس التاجي أعين الناس على حقيقة مشاهد مؤلمة للفقراء والجياع المنتشرين ليس فقط في أرجاء العالم النامي حيث الفقر والجوع والبطالة تعتبر مشاهد نمطية متكررة ومعهودة بل في عالم كثيرا ما قدم نفسه كنموذج للتقدم العلمي والتقني كما ادعى تفوقه في مجال صون حقوق الانسان وكرامته. وكمثل عن مظاهر البؤس التي تغلف عالمنا والتي كشفها الفيروس التاجي ما حصل في أعتى الديمقراطيات وأكثرها قوة حين دفعت الأشخاص المشردين الذين كانوا يتمتعون بعناية بعض المؤسسات والجمعيات الخيرية في لاس فيغاس إلى المغادرة بسبب خطر الإصابة بالعدوى، إلى الشوارع ليلجؤوا طوال الليل إلى ساحة مأوى للسيارات في أحد ملاعب كرة القدم. حيث حددت لهم شرطة المدينة بواسطة خطوط بيضاء مرسومة الإطار المسموح لهم لوضع أجسادهم عليها مع المحافظة على مسافة الأمان المطلوبة بينما كانت الفنادق الفاخرة من حولهم فارغة. علينا أن نحفظ في أذهاننا هذه الصور عن الرأسمالية الحقيقية لقد أوضحت إيطاليا وهي أكثر البلدان تضررا من الفيروس التاجي للعالم أن حياة الإنسان قد أختزلت إلى مجرد حفظ البقاء في مجتمع حديث خاص، وأن كل الإجراءات تهدف إلى إنقاذ الوجود البيولوجي النقي. مدفوعين بذعر الخوف من فقدان ما تبقى منهم، ومن حياتهم العارية، لقد فر المواطنون المنعزلون من جراء الوباء إلى أحضان "ليفياتان" الرهيب وضحوا بحريتهم لأجل سلامتهم الجسدية. فكيف ينظر الفلاسفة المعاصرون لأزمة الوباء التاجي ولأثاره الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟

كان الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين قد سخر من المعاناة الإنسانية التي سببتها أزمة الكورونا واعتبر أن "المجتمع الذي يعيش في حالة طوارئ مستمرة لا يمكن أن يكون مجتمعًا حرًا" وهو يظهر كشخص "متعجرف" مثل نظيره الفيلسوف بيتر سلوتيرديك، والذي قام في مقابلة مع مجلة "لو بوان Le Point" بتتفيه الفيروس ورده إلى مجرد أنفلونزا عادية ورسم صورة شيطانية عن الدولة الأمنية التي بدأت تطل برأسها بدعوى مكافحة الوباء.

من ناحية أخرى، فإن فينكيلكروت مقتنع بأن المعايير الحضارية معرضة للخطر في ظل ردود فعل الدولة على الوباء. "إن حياة الشيخ تساوي نفس قيمة ممن مازال يمتلك قدراته الكاملة من بقية الناس. وطالما أننا ندافع عن هذا المبدأ، فإن العدمية المعاصرة لم تنتصر أخيرًا، ولزلنا نعتبر أنفسنا حضارة".

وكان جورجيو أغامبين يعتقد أن الطريقة التي تتفاعل بها السلطات مع الوباء تشعرنا بالبرد الجليدي للعصر الحديث. كما يتساءل تشارلز آيزنشتاين أيضًا إذا ما كان تأجيل الوفاة في العناية المركزة هو في الواقع أخذ مسافة عن الحياة لأجل حقيقة أن المجتمع الليبرالي قد قضى على الموت المندمج ثقافياً واستبدل أمن الأسرة بالأجهزة؟

في حين أن في منطق النظام الطبي، الموت هو أسوأ الممكنات، لكننا نعلم جميعًا أن "الموت ينتظرنا جميعا حيثما نوجد. وما الحياة التي تم انقاذها ليست في الواقع سوى موت مؤجل".

إنه لأمر فظيع إذا كان الأشخاص المصابون بالمرض في مراحله المتقدمة والنهائية يتم حبسهم في المستشفيات وعزلهم حتى عن آبائهم وأقاربهم ولا يُسمح لهم بتوديعهم.

ومع ذلك، يجب علينا أن نميز بشكل واضح لا لبس فيه انتقاد أجهزة الطب عن تأكيد ينتشر اليوم أيضًا بمعنى التأكيد الذي من خلاله يرفض مجتمع ما فاسد ذاتيًا من تقديم تضحية للمجموعة في وقت الحاجة. أو يرفض التضحية بالقدامى لأجل تجنب الموت الزاحف للاقتصاد.