لاشك أن الاعلان الرسمي الاسرائيلي عن بدء إجراءات ضم جميع المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية، اعتبارا من مطلع يوليو المقبل، يمثل تطوراً فارقاً وخطيراً في ملف الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ليس فقط لكونه خطوة فردية من جانب واحد، ولكن لأنه يتعلق بوأد عملية السلام وتدميرها وإعلان نهاية حل الدولتين ونسف كل الجهود الدولية السابقة التي استهدفت تحقيق الأمن والاستقرار من خلال سلام عادل وشامل تطبق فيه قرارات الشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة ومبادئها.

التقارير الاسرائيلية تقول أن الجهات المعنية هناك تعكف حالياً على رسم خرائط بأراضي الضفة الغربية، بغية التوصل إلى تفاهمات بشأنها مع الإدارة الأمريكية”، ضمن "صفقة القرن"، محاولة تغيير واقع القضية بضم أجزاء واسعة من اراضي الضفة الغربية ووضعها تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة، ما يعني تجاهل الشرعية الدولية تماماً، ناهيك عن تغييب إرادة الطرف الفلسطيني والعربي.

الرد الفلسطيني الذي أعلنه الرئيس محمود عباس تضمن التحلل من جميع الاتفاقات والتفاهمات مع اسرائيل والولايات المتحدة، ومن جميع الالتزامات المترتبة علي هذه الاتفاقات بما فيها الأمنية، واتفاق أوسلو ١٩٩٣، وهو موقف سياسي قوي ولكنه يضع أيضاً السلطة في موقف بالغ الصعوبة والتعقيد، ويمكن أن يصب في مصلحة الجانب الاسرائيلي الذي يمكنه الادعاء مجدداً بعدم وجود شريك للسلام وأنه تصرف بموجب غياب عدم تحمل الطرف الفلسطيني لمسؤولياته في إدارة الصراع.

انسحاب السلطة الفلسطينية من جميع الاتفاقات والتفاهمات مع إسرائيل والولايات المتحدة يمكن أيضاً أن يضع شرعية هذه السلطة في مهب الريح، ويفتح الباب أمام سحب الاعتراف بها أمريكياً ـ على الأقل ـ كممثل وحيد للشعب الفلسطيني، بما يعني فقدان الفلسطنيين جزء كبير من قدرتهم على التواصل الرسمي مع المجتمع الدولي ومؤسساته وعرض مواقفهم ومطالبهم بما يعنيه كل ذلك من عودة للوراء وخسائر سياسية للقضية، وإن كنت لا اعتقد أن اسرائيل ستواجه قرار أبو مازن بسحب مضاد للاعتراف بالسلطة الفلسطينية لأنها بحاجة إلى وجود هذه السلطة لأسباب واعتبارات عدة بعضها سياسي وبعضها الآخر أمني واقتصادي.

الواقع يقول أن القضية الفلسطينية تواجه أصعب الاختبارات، وأن الموقف يتطلب تضامناً وتنسيقاً عربياً سريعاً وعاجلاً لبناء موقف عربي موحد لدراسة خطوات الرد على القرار الاسرائيلي بشكل مدروس، خصوصاً أن حكومة نتنياهو ـ جانتس تستغل الظروف الصعبة والمعقدة التي تمر بها العلاقات الدولية بسبب تفشي جائحة "كورونا" لتمرير مخططها بالاستيلاء على باقي الأراضي الفلسطينية، حيث لا تخفي هذه الحكومة قناعتها بأن الظروف مهيأة لكتابة "فصل جديد ومهم في تاريخ إسرائيل"، وأحد أسباب هذه القناعة أنها تدرك أن المجتمع الدولي سيقف عاجزاً عن ابداء أي رد فعل عملي تجاه السلوك الاسرائيلي، وأن الأمر سيقتصر على بعض تصريحات الرفض والاستنكار والشجب والادانة.
والحقيقة أن العرب والفلسطينيون معاً في مأزق سياسي حقيقي جراء القرار الاسرائيلي، والمشهد في مجمله يدعو لعدم التفاؤل في ظل انقسام فلسطيني فشلت كل محاولات ومساعي ترميمه ومعالجته، وضعف استراتيجي عربي قائم منذ اضطرابات عام 2011، وازداد عمقاً بسبب تأثيرات تفشي جائحة "كورونا" التي اضافت المزيد من الهموم والمتاعب إلى الدول العربية التي كانت تحاول استئناف دورها القومي ولملمة شتات الصف العربي.

المؤكد أن الشروط المعلنة لقيام دولة فلسطينية لا يمكن القبول بها فلسطينياً، حيث يقول نتنياهو أن مايعرف بخطة "صفقة القرن" تتضمن 10 شروط وصفها هو نفسه بـ"القاسية"، وأن على الفلسطينيين القبول بها، إذا ما أرادوا كيان لهم، بالضفة المحتلة. وأضاف معددا بعض هذه الشروط " قبول السيادة الإسرائيلية في الضفة الغربية، وتوحيد القدس (تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة)، وعدم دخول ولو لاجئ (فلسطيني) واحد، وعدم إزالة المستوطنات" وقال نتنياهو إن على الفلسطينيين "أن يعترفوا بأننا الحاكم الأمني على كامل المنطقة، إذا وافقوا على كل هذا، فسيكون لديهم كيانهم الخاص الذي حدده الرئيس ترامب كدولة".

نتنياهو نفسه يقر بأنها "فرصة استثنائية لتغيير الاتجاه التاريخي" باعتبار أن كل الجهود السابقة كانت تقوم على تنازلات متبادلة من طرفي الصراع، وأن الأمور الآن تمضي في اتجاه تنازلات قاسية من طرف واحد (الفلسطيني)، وواقعياً، فإن هذا الأمر يمكن أن يمر سياسياً في ظل معطيات الواقع الاقليمي والدولي المتدهور الذي لا يخفي على أحد، ولكنه لن يطوي صفحة الصراع تاريخياً، وأن طموح الحكومة الاسرائيلية لتغيير معالم الشرق الأوسط من خلال هذه الخطة كما قال الجنرال غانتس لن يجد طريقه للنور سوى عبر الاشلاء والدماء التي يسعى الجانب العربي إلى تفاديها وانهاء الصراع بصورة حضارية وفق صيغة حل الدولتين وبموجب قرارات الشرعية الدولية التي لا وجود لها في هذا التحرك الأحادي.

إن حديث نتنياهو عن فرصة تاريخية لإسرائيل "لن تهدرها ولن تسمح لها بالضياع" يتجاهل التبعات الكارثية لمخطط ضم أراض من الضفة الغربية المحتلة، ويعيد الصراع إلى الواجهة للواجهة بديلاً للسلام، ويقوض ماتبقى من أمن واستقرار اقليمي ويمنح التنظيمات المتطرفة هدية مجانية وقبلة أوكسجين تعيد لها الحياة وتسهم في نشر الارهاب والتطرف الذي سيدفع ثمنه الجميع في منطقتنا والعالم مجدداً.