قليلون هم الذين سعوْا الى تحديد مفهوم النخبة العربيّة خلال القرن العشرين. والشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل أحد هؤلاء. ولم يكن ذلك بالأمر الغريب .فهذا الشاعر الذي اطلع على ثقافات العالم القديمة والحديثة ،وتعمّق في دراسة أعمال عمالقة الفكر والفلسفة في جميع العصور ،وتشبّع بالمعارف الإنسانيّة في جميع المجالات ،حاول في أشعاره كما في محاضراته والحوارات التي أجريت معه، أن يمنح للثقافة العربية أبعادا انسانيّة تحررها من المحلية الضّيّقة، وتعيد لها المجد الذي كانت تفتخر به عن جدارة في العصور الخوالي.

ونحن نعثر على أوسع وأعمق مفهوم لمفهوم النخبة العربية في محاضرة ألقاها سعيد عقل في الجامعة الأمريكيّة ببيروت في شهر ديسمبر عام 1954.وفي بداية هذه المحاضرة، هو يحدّد مفهوم النّخبة قائلا :”ليست النخبة أفرادا أفذاذا، بما هم أفراد أفذاذ. ولا طبقة مثقفين بما هم طبقة مثقفين. إنّها جسم حيّ ذو معرفة في مستوى المصائر الكبرى، واع ذاته ودوره في العالم". ومعتمدا على قولة الفيلسوف اليوناني الشهيرة التي فيها يقول :”سأخاطب الحكيم فابعدوا الجهّال" يرى سعيد عقل أن العامة والدّهماء "خطر على القيم الكبيرة". غير أن خطر العامة هذه يمكن أن ينحسر، بل قد يزول تماما في حال وجود خاصّة ،أو نخبة .ثمّ يطرح سعيد عقل السؤال التالي :ولكن أين نحن في الشرق من تكوّن النخبة؟ تلك النّخبة التي تكون بحسب رأيه ك"جسم حيّ ، ما هي كالآلة تستقبل الوجود، وإنما كالإنسان تقصد الوجود، وكذات معرفة وخُلُق في مستوى المصائر الكبيرة ،لا تجهل شيئا بلغة العقل في أيّة بقعة من بقاع الأرض ، ولا تفتقر الى شيمة تحلّي بها في أيّة رقعة من رقاع التمدّن، من تلك الشيم التي تدرّع الناس حيال الشرّ، وإغراءات الشرّ. وكواعية ذاتها ودورها في العالم ، لا تتصرف تلقائيّا أو اندفاعا في تيّار وإنما على فعل إرادة ، وعن ادراك بأنها هي المسؤولة في النهاية عن مستقبل الإنسان في الأرض، وربّما في ما وراء الأرض".

ويرى سعيد عقل أن النخبة ليست حزبا بالمعنى السياسي والإيديولوجي للكلمة ،ذلك أن النخبة، بحسب رأيه لا تطلب الحكم، ولا تريده. كما أنها فوق "شهوة السلطة". وإذا ما كان الحكم "أسلوب لتعهّد الأمّة ، أو العالم، في صعوده نحو مصير عظيم"، فإنّ النخبة هي "هذا المصير العظيم".

ويؤكّد سعيد عقل على ضرورة اعتماد الأحزاب السياسيّة على النّخبة وإلاّ فإنّ أحوال الأمّة تؤول الى الخسارة والفساد .وهذا ما أثبتته نكبة فلسطين على سبيل المثال لا الحصر. فالصهيونيّة ، يكتب صاحب "رندلي" تشكّل كلّ يوم تحدّيا لوجود العرب غير أن العرب يفتقرون الى نخبة "تعمل بمستوى المصائر الكبرى". وهنا يكمن السبب في الهزائم المتلاحقة التي منيوا بها في مُجمل حروبهم ضد اسرائيل. وكلّ مجتمع يظلّ متخلّفا ومهزوما إذا لم يكن قادرا على أن يولّد "نخبة نافذة الكلمة ، تغْضُب للعمل الأثيم ، وتمنع حصوله".

ويكتب سعيد عقل في محاضرته قائلا :”لا، ليس من الضروري أن تتسلّم النخبة بأشخاصها الحكم. ولكن من المحْيي أن يتشرف الحكم بالجلوس الى مائدة النخبة .فعلى تلك المائدة وحدها ينقذ الحكم نفسه من نفسه، ينقّي جوّه من صغارة الزبائن ، يرتفع الى المناخات العلى، يمدّ ذاته بنبل العلم ، وبالفكرة الكبيرة ، يعود غير متخوّف من الإقدام على الجلَل، وعلى تخطيط التاريخ، والإقدام على الجلل وحده يخرس التذمّر لأنه يجتثّ أسباب التذمّر، وتخطيط التاريخ وحده يهوّس ويغمر بالفرح لأنه يرفع الأعين اللصيقة بالتراب الى ملاعب الشمس".

ولكن كيف تنشأ النخبة ، وكيف تتكوّن؟
على هذا السؤال يجيب سعيد عقل قائلا بأن النخبة ككلّ جسم حيّ "تتّبع سنَنَ النّشوء".ففي البداية هي "خلايا قليلة في فراغ المجتمع"، و"أرخبيلات في خضمّ". ثمّ تنمو الخلايا ،وتتكاثر لتنتظم في النهاية في "الخليّة الكبرى" التي هي النخبة. والعنصر الأساسي الذي يقوّي النخبة ،ويدعمها معنويّا بالخصوص هو الصداقة بين أفرادها بحيث يزول بينهم كلّ ما يمكن أن يعطّل عملهم ،أو يفرّق بينهم، أو يشيع في صفوفهم الفتنة والبغضاء فيتخاصمون ويتنازعون ويتقاتلون منصرفين بذلك عن المشروع العظيم الذي كانوا يخططون لإنجازه ،ألا وهو النهوض بأمتهم المغلوبة على أمرها.

ويشير سعيد عقل إلى أن النخبة لا تحتاج الى "الحدْب" من جانب مؤسسات الدولة إذ أن ذلك يقودها الى الإنطواء على نفسها "فلا تلبث أن تيبس حتى لتغدو متحف موميات". ولكن ويل لحكم "ينفّرها" إذ لا يلبث هذا الحكم أن يفقد شرعيّته بعد أن يتنكّر له الشعب، ويدير له ظهره فيصبح مثل "حمارنا عوْره هزُلَ حتى لم يعدْ يُطلع الاّ ما ينقع عطشه". وهذا هو حال أنظمة الحكم في العالم العربي.

ويضيف سعيد عقل في محاضرته قائلا بأن شعور النخبة بأنها النخبة هو وحده الذي يحميها من التّمزّقات الداخليّة، ومن المخاطر الخارجيّة المتمثلة في السعي الى التقرّب من نظام الحكم، وإعلان الولاء له حتى ولو كان ظالما ومنكّلا بأبناء شعبه. وعندما لا يتطلّع المجتمع الى نخبة "تتنفّس تنفّسا بالشؤون العليا والقيم الإنسانيّة النبيلة، فإن هذا المجتمع سرعان ما يتحوّل الى "شبح"، أو الى "دولة بوليسيّة تحكم بالسوط"، أو "رقعة أرض من فقر وبداوة في لباس متمدنين معرّضة بين يوم وآخر للوقوع في أيدي شرذمة من الطمّاع وتجّار النفوذ، أو ما هو أوجع: مستعمرو الغرب".

ويرى سعيد عقل أن النخبة لا تكون نخبة بالمعنى الحقيقي والعميق للكلمة الاّ إذا ما سعت الى تقليص الهوّة بين الخاصة والعامة. فإذا ما هي عجزت عن تحقيق ذلك، فإن النتيجة تكون مرعبة. فعندئذ يستمرّ الحكم في التدهور إذ أن الحكم بطبيعته متأثر بالعامة ،إن لم يكن منبثقا عنها. ويستمرّ هذا التدهور الى أن يفضي الى حكم "فرديّ".

وبالنسبة لسعيد عقل ،هناك مقوّمات أربع للعالم العربي المعاصر تمتزج ببعضها البعض: ماض مجيد، ورقعة أرض معظمها صحراء، وطول عهد بالتغيّب عن التمدّن والتّمدين، وانصعاق بغرب بلغ من القوّة، معنى ومادة، حدّا يجعل الفارق كبيرا بينه وبين سواه.
وبحسب سعيد عقل لم يستند خلاص العالم العربي من الإستعمار إلى "وعي ضرورة الحريّة"، وإنما الى العداء إلى الأجنبي. وكان أغلب أبطال الإستقلالات الوطنيّة "كارهي غرب لا طالبي حق". فكما لو أن الكره" يصلح أن يكون مذهبا سياسيّا ".وكانت النتيحة في النهاية -ودائما بحسب سعيد عقل- “أن أبقى محترفو السياسة على شبح الإستعمار بعد ذهاب الإستعمار، وسيلة سهلة تضمن بقائهم هم". وبذلك استمرّ العالم العربي يجترّ وضعا كان قد انقضى". وبدل أن ينتقل العرب الى " البناء"، بقوا في "دائرة الخوف".

ويعتقد سعيد عقل أن هناك آفة أخرى تعيق العلم العربي عن التحرّر من جموده. ويتمثل ذلك في "قلّة الطموح عنده". وقلّة الطموح هذه تمهّد الطريق امام الخاملين للوصول الى سدّة الحكم.