بداية، يجب التوضيح أن تعبير "المتصهينون" يعني الأشخاص الذين يقبلون الرواية الصهيونية لاحتلال فلسطين، أو يدعون إلى قبول نتائجها أمرا واقعا من دون مقاومة، أو حتى رفض لفظي، ويعتقدون اعتقادا جازما أن المواجهة السياسية او العسكرية او الفكرية مع الصهاينة تعرقل عملية التحاق العالم العربي بركب الحضارة والتمدّن والازدهار الاقتصادي، وكأن رفض الفلسطينيين لهذا الاحتلال جريمة بحق الحضارة الإنسانية.

بين الحين والآخر يخرج علينا بعض الكتاب العرب من دعاة التطبيع مع العدو الصهيوني، يروجون لفكرة التطبيع بحجة ان إسرائيل دولة متطورة علميا وتكنولوجيا، وان الدول العربية متخلفة في هذين المجالين ويمكن للدول العربية الاستفادة من التجربة الإسرائيلية، دون ان يذكروا الأسباب الحقيقية التي جعلت من إسرائيل دولة متقدمة. الدول العربية متخلفة، ليس في هذين المجالين فقط، ولكن في مجالات أخرى رئيسية كذلك وهي السياسة والتخطيط لمستقبل الأجيال القادمة.
ليس الكلام هنا عن الحكومات العربية، أو حتى عن عملاء للمخابرات الإسرائيلية (الموساد)، فأغلب الحكومات العربية (إن لم يكن جميعها) لا تتحكم في قراراتها بسبب التبعية السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة وبعض الدول الكبرى، ومن الممكن مواجهتها مباشرة. ما نشير اليهم في هذه المقالة هم مجموعة من الكتاب والمثقفين العرب وبعض الأصوات النشاز تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وتتسابق على شتم الفلسطينيين والحط من قدرهم، وعن مقالات لبعض الكتاب (ممن باعوا ضمائرهم للشيطان) منمقة لغويا وفكريا، تقوم بتصوير الاستسلام للعدو الصهيوني عملا تقدّميا وحضاريا للخروج من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في دول الطوق العربي.

في الحقيقة والواقع، أن بدايات التطبيع العربي مع الدولة العبرية ليس وليد اليوم، ولكنه يعود لأكثر من ربع قرن بالتزامن مع عودة العلاقات العربية مع مصر نهاية الثمانينيات، ثم انهيار النظام العربي بسبب احتلال العراق للكويت في الثاني من أغسطس عام 1990م، وحدوث اختراقات كثيرة بفعل الحضور العسكري الغربي بالمنطقة لصالح التطبيع مع الصهاينة. ومن الأسباب الرئيسية كذلك لتكالب القادة العرب على التطبيع هو أن انظمة الحكم العربية، وبعد أحداث الربيع العربي، أدركت أن الشعوب تكرهها، وأنه لا شرعية شعبية لها، لذلك لجأت للتقارب مع الغرب وخصوصا الولايات المتحدة، عبر إسرائيل، لتأكيد وضمان شرعيتها وحمايتها من شعوبها. إسرائيل (من جانبها) تستغل هذه الحاجة جيدا للحصول على مزيد من التنازلات، ولإجبارهم على تنفيذ المخططات الإسرائيلية بحذافيرها، مثل محاصرة قطاع غزة واعتبار كل أنواع المقاومة الشرعية إرهاب.

على الرغم من خطورة الهجوم على حركة المقاطعة، لكن الأخطر هو بيع الوهم بأن التعامل العربي مع إسرائيل هو السبيل الوحيد إلى النهوض بالاقتصاد العربي، فبعض الكتاب يرى أن التطور التكنولوجي الإسرائيلي سيكون رافعة للتطور التكنولوجي في البلاد العربية، ولا أدري كيف توصل هؤلاء إلى هذه الاستنتاجات. وهل يعقل ان تقوم إسرائيل بتزويد أي من الدول العربية بأسرارها العلمية والتكنولوجية؟ نعم، ممكن ان تقوم إسرائيل ببيع هذه الدول أجهزة القمع والتنصت لاستخدامها لقمع شعوبها واخضاعها، وتدريب رجال مخابراتها.

ظاهرة "المتصهين العربي" الذي يروج ويرحب بالتطبيع، بل ويهاجم مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، باعتبار ذلك مؤشرا على رفض الآخر، ورفض التنوع الثقافي، ودليلا على تخلف همجي، الهدف الحقيقي منه هو فك ارتباط الشعوب العربية بالقضية الفلسطينية كشرط للتنوير والانفتاح على ثقافات دول العالم الأخرى. والمعنى الفعلي لرسالة "المتصهينين العرب" هي أن الفلسطينيين وقضيتهم أصبحا عبئا على الدول العربية، وكأن إسرائيل دولة مسالمة، بل وصديقة وحليفة، تضع في أولوياتها تقدّم العالم العربي، لكنها لا تستطيع القيام بمهمتها الإنسانية نتيجة مقاومة الفلسطينيين، أو عنفهم أو حتى إرهابهم، فلا فرق لديهم بين المفاهيم.
هجوم "المتصهينون العرب" اللافت على الفلسطينيين هو نتيجة تواطؤ بعض أنظمة الحكم العربية مع خطة الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" المعروفة (بصفقة/صفعة القرن المشؤومة) لتصفية القضية الفلسطينية، وبروز النزعات العنصرية ضد الفلسطينيين في بعض البلدان العربية أمام الاختباء وراء مقولات الحضارة والتقدم الإنساني لتبرير التقارب مع إسرائيل، ما هو في الحقيقة إلا تبرير مقصود للجرائم العنصرية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني.

آثار وتكاليف التطبيع ستكون أكثر فداحة من أي شيء، لأنها تمس نسيج الأمة العربية وتاريخها، وتطيح بالكثير من عوامل صمودها واستمرارها. لقد طبَّع البعض مع الكيان الصهيوني منذ اكثر من عقدين من الزمن، ماذا جنوا من هذا التطبيع سوى المذلة والمهانة؟