عادت قضية العنصرية إلى واجهة الأحداث العالمية عقب موت الشاب الأسود غير المسلح جورج فلويد أثناء عملية إلقاء الشرطة القبض عليه، ليشتعل الشارع الأميركي غضبًا في مظاهرات احتجاجية عمت أنحاء البلاد كما أدت الى ردود أفعال دوليّة تجلت في خروج العديد من المسيرات في أنحاء مختلفة من العالم من أستراليا إلى بريطانيا مرورا بإسبانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها من دول العالم.

وإذا ما أردنا أن نحلِّل ظاهرة العنصرية ضد أي فئة من فئات المجتمع فلا بدَّ من النظر إليها من خلال سياقها الفكري العام، لأن أشكال العنف الممارَس ضد أي أحد ليست إلا صورًا منعكسة للعنف الممارَس ضد الإنسان بشكل عام.

فالعنصرية ليست إلا أحد أوجه العنف الممارس من قبل آخر يحاول فرض سلطته وقوَّته ، عبر التستر بمفردات " فاضلة " أحيانًا يدّعي من خلالها أن عليه تأديب مَن يقع تحت وصايته، فيمنح نفسه حق ممارسة إخضاع الاخرين له.

ومن هنا فإن للعنصرية أشكال لا يمكن حصرها ومنها ممارسة التمييز ضد الإناث والأطفال والمثليين و الفئات الفقيرة والمهمشة و اضطهاد اتباع بعض المعتقدات أو الجنسيات. و منها الكثير من ممارسات التنمر اليومية التي يقوم بها عادة من هو في موقع "القوة" على من هو "أضعف" منه أو من يصنفه في دائرة المغاير المختلف.

انطلاقًا من ذلك ولفهم أدق للأسباب المؤدية لشتى أنواع التمييز من ممارسة العنف أو الاضطهاد أو التنمر، لا بد من وضع تساؤل بالغ الأهمية حول علاقةَ العنف بتشكيل الهوية عند الكائن الإنساني حيث تبدو تلك العلاقة وثيقة بينهما.

فعندما يحدد الانسان انتمائه من خلال عرق أو لون او طائفة او دين أو حتى حيز جغرافي فإنه بالتالي يميز نفسه عن غيره ممن لا يتشاركون معه الأوصاف عينها ، ومن ثم تؤدي بعض الثقافات إلى تسويغ نبذ الآخر أو اضطهاده لا لشيئ سوى لأنه وجد في وضع مغاير لا خيار له فيه ! اضافة الى ان تأطير هوية الانسان هذا سيضعه أسير الخوف من الآخر المغاير له.

فالبشر لا يختارون أبائهم ولا أعراقهم ولا المكان الجغرافي الذي يولدون فيه ولا البيئة الثقافية واللغوية والاجتماعية التي يحيونها في طفولتهم المبكرة، ومع ذلك كله فإن على هذا المولود ان يتحمّل تبعات كل ذلك ونتائجه المحتملة ! أي ظلم أقسى من ذلك وأكبر!

والأدهى من ذلك وأمرّ عندما تأتي بعض "القوانين" لتحاسب بين أطراف لم تتح لهم الفرصة نفسها ، فالعدالة تقتضي بداية توفير الفرص عينها قبل أي محاسبة أومساءلة.

ومن منطلق انساني بحت يمكن القول أن قضية جورج فلويد ليست قضية بين السود والبيض في أميركا بل هي قضية بين العدل والظلم في كل بقاع الأرض.

نعم لقد أبدى المحتجون وعيًا رائعا حين قاموا بالاحتجاج على العنصرية من أمام نصب المناضل مارتن لوثر كينغ الابن في العاصمة واشنطن ، حيث جثوا على ركبهم مدة 8 دقائق و 46 ثانية وهي المدة التي امضاها فلويد تحت ركبة الضابط مستغيثًا : " لا استطيع التنفس!". وقد حمل المتظاهرون شعارات وألقوا كلمات أحيت المبادئ الأساسية للاعنف الذي أطلقها كينغ قبل نصف قرن. وهي رسالة لا تعني الشعب الأميركي وحده بل هي مبادئ انسانية عامة أحوج ما تحتاجها البشرية في عصر تتحكم به المصالح المادية . ونجمل تلك المرتكزات بنقاط أهمها:

أولا، الشجاعة في وجه الطغيان والظلم ، فالعمل اللاعنفي لا يتأسَّس على الجبن او الخوف.

ثانيًا، ان اللاعنف لا يسعى "تدمير الاعداء"او إلحاق الهزيمة بالخصوم بل كسبُ تفهُّم المتعاطفين من أجل إيجاد مجتمع قوامه المحبة .

ثالثًا، إن مواجهة الشرّ بعينه هي الاولوية، فاللاعنف ليس موجَّه ضدَّ الناس الذين يرتبكون الشر.

رابعًا، ان اللاعنف مبدأ يقوم على التضحية و ثمة استعداد لتقبُّل المخاطر والأوجاع بدون الثأر من مسببها.

خامسًا، ان العنف النفسي يجب تجنبه أسوة بالعنف المادي والعمل على احلال المحبة بدل الكراهية والايمان العميق بغلبة العدالة في القضايا الانسانية .
وأخيرا تجدر الاشارة إلى ان العنصرية ليست ظاهرةً عَرَضية، أو مسألةً طارئة في الزمان والمكان، كما يتجلَّى بكل وضوح في خطاب وسائل الإعلام المختزل الرديء. وهذا خطأ فادح، لأن العنف ليس إلا جزءًا يسيرًا من منظومة عنف كبرى وواقع عام شديد القسوة والمرارة. ولعل من المهزلة ان تعمد وسائل اعلام دوغمائية إلى إدانة الحادثة و وصمها بشعب أو بلد معين فيما هم يلعقون حذاء ديكتاتور غاشم!

نعم قضية فلويد هي قضية انسانية وليست "أميركية" وجدير بكل البشر ان يعيدوا حساباتهم ويراجعوا ذواتهم، حيث سيجد كل فرد في داخله ديكتاتورا او متسلط يتحكم بغيره في وجه من الوجوه ، فليبدأ كل فرد بتطهير ذاته من عقد الفوقية والافكار المتحكمة به أولا ، والتحرر من مسلماته الفكرية والعقدية ، فأيًّا تَكن مرجعيتنا الثقافية فالسلام موجود في قلوب البشر منذ بداية الأزمنة، وان أحوج ما نحتاجه اليوم وأكثر من أي وقت مضى هو العودة الى استراتيجية العمل اللاعنفي الذي نادى به الحكماء باشكال متنوعة على مر العصور، وقوامه المحبة كضرورة اخلاقية وانسانية لمواجهة تحديات العصر الذي يتنامى فيه الارهاب وتتعالى فيه خطابات الكراهية.