" ان الفكرة الأساسية التي غذت الاستعمار الأوروبي صارت خالية من أي جوهر ولم تعد أوروبا المدافع الذي لا يخطئ أو الراعي الشرعي للمدنية"[1]

فوت البرلمان التونسي في العاشر من جوان الفارط على نفسه فرصة تاريخية لكي يسوي أخطر الملفات العالقة من الماضي الكولونيالي وتعذر عليه بعد نقاش طويل وتفاوض صاخب تمرير لائحة لوم واعتذار ومصادقة تطلب من فرنسا الاعتذار والتعويض على الجرائم التي ارتكبتها في الحقبة التي احتلتها فيها ونهبت مواردها الطبيعية وثرواتها المنجمية وسببت لسكانها عدة أضرار وانتهاكات الجسدية والمعنوية.

والحق أن تونس تعرضت منذ قرون ومثل بقية دول المتوسط والبلدان الافريقية والأسيوية الى الكثير من الحملات والغزوات ومن طرف الدول المجاورة لها وبدأت سردية الاحتلال بعليسة وصدربعل وقرطاج وحنبعل وروما ويوغرطة وتاكفارناس والكاهنة والعرب والمسلمين وامتدت الى قدوم الاسبان والوندال والعثمانيين الأتراك وسيطرة الحسينيين على الحكم لقرون وقيام ثورات بن غذاهم وإصلاحات ابن أبي الضياف وصاحب الطابع وخير الدين ودخول الجيوش الفرنسية من الجار الجزائري تحت عنوان الحماية.
في هذا السياق يمكن اعادة التفكير في قضية مابعد الكولونيالية وحقيقة الاستقلال وواقع الاستعمار الجديد ورصد جملة من المفارقات تتعلق بالدولة الوطنية التي تشكلت في المنطقة الافريقية والأسيوية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وميلاد منظمة الأمم المتحدة سنة 1948 وتفعيلها حق الشعوب في تقرير مصيرها.

المفارقة الأولى تتمثل في التخلص من الاستعمار بتوقيع اتفاقيات حول الاستقلال الكامل والجلاء التام والحصول على السيادة الوطنية من ناحية ولكن الدول الرأسمالية من ناحية اخرى قد غيرت أشكال الهيمنة على الدول التابعة وانتقلت من الاستعمار المباشر الى الاستعمار غير المباشر ومن الاحتلال العسكري الى الاحتلال عن طريق الاقتصاد والثقافة والإعلام وظلت تتعامل معها بوصفها جزء من مجالها الحيوي.

المفارقة الثانية تكمن في دخول الشعوب في زمن مابعد كولونيالي على المستوى القانوني وضمن الوعي الحقوقي وشعورها بالعزة الوطنية والكرامة الانسانية من جهة وبقاء النخب الحاكمة مرتهنة للزمن الماضي ووفية للدوائر الرأسمالية ومرتبطة بالقوي الاستعمارية تحافظ على مصالحها من جهة مقابلة.
المفارقة الثالثة هي عزم الدول المستقلة في بناء تنميتها الشاملة الخاصة بها والتعويل على الذات وتحقيق الاستفاقة الاقتصادية والتحديث المطلوب من طرف مواطنيها ولكنها تطلب من الدول التي كانت قد احتلتها المساعدة على التطور وتتورط في الاقتراض والمديونية وتجدد المعاهدات معها باسم الشراكة والتعاون.

فماذا تمنحنا الفلسفة السياسية من عدة منهجية للتفكير النقدي في هذه المفارقات في العلاقات الدولية؟
معنى الاستعمار هو الاحتلال الغاشم للدول المغلوبة من طرف الدول المنتصرة وقهر الشعوب واستباحة أعراضها وافتكاك منافعها والاستيلاء على أراضيها وتدنيس سيادتها أوطانها وانتهاك كرامة مواطنيها.

لا يحمل مصطلح الاستعمار اي فائدة دلالية حتى وان اقترن بالاعمار والتعمير والعمران ولا يجوز من الناحية الايتيقية الكلام عن منافع الاستعمار بالنسبة لبلدان تم السيطرة عليها والتي عانت من عدة ويلات.

لقد كشفت مدرسة فرانكفورت منذ جيلها الأول مع هوركايمر وادرنو وبنيامين في تاليفها المنهجي بين أدوات التحليل بين كانط وهيجل وماركس ونيتشه وهيدجر على أن الاستعمار سليل التنوير وأنه استخدم الاستشراق والأنثربولوجيا والأثنولوجيا والاثنوغرافيا كقنوات معرفية لدراسة الشعوب التي يقوم بغزوها ولعل زيارة كارل ماركس الشهيرة للجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي وتمييزه بين نمط انتاج رأسمالي مستند على عملية التصنيع ونمط انتاج أسيوي مبني على الريع دليل على توازي التفسير في علم الاقتصاد السياسي وتخليه عن الموضوعية العلمية وادعاء الاممية وخضوعه اللاواعي للمركزية الأوربية الغربية.

لقد تم الانتقال من الاستعمار الغليظ والمروع الذي يستعمل أدوات قوة مادية عنيفة ويجهز الجيوش المقاتلة ويرسل الأسلحة الفتاكة الى الاستعمال اللين والمراوغ الذي يختفي وراء الرياء الديبلوماسي والحملات التبشيرية والعمل الخيري والإعانات الغذائية والقروض والمنح والهبات والصدقات والارساليات الثقافية والذي يصعب التفطن اليه ومشاهدته بالعين المجردة ومقاومته بالطرائق التقليدية والمواجهة المباشرة.

غاية المراد أن التابع من حقه التفكير والدول الضعيفة من حقها الاستقلال التام وأن الاستعمار مدان بشدة ومصير كل احتلال هو الزوال الحتمي وأن التحرر عملية مركبة تستوجب الاستكمال لدوائر عديدة تبدأ بالسياسي والقانوني وتمر الى الاقتصادي والاجتماعي وتبلغ الثقافي والرمزي والإعلامي والحضاري وأن الشعوب الحرة التي بلورت من ترابها ثوراتها يجوز لها أن تطمح الى الاعتذار والاعتراف العادل.

الاعتذار يحقق الكثير من الأشياء المهمة للشعوب التي عانت وقيمته لا تتوقف على التعويضات المادية وإنما تتعدى ذلك الى المستوى المعنوي وترمم جراحات الذاكرة وتداوي الاهانات التاريخية التي تعرض لها الضمير الجمعي من طرف السياسة العقابية للمستعر وتمنح المجاهرة بالحقيقة والاعتراف بالجرائم. لكن توجد الكثير من التحفظات على المستوى اللوجستي عند المطالبة بفك الارتباط بين الشمال والجنوب والمركز والمحيط وبين الغرب والشرق وإلغاء التبعية وشطب الوجود المدان للمستعمر من قبل المستعمر ولعل اولها هو فقدان خيوط الانعاش وقنوات الامداد وضياع بوصلة التحديث والتقدم وإمكانية العصرنة وفشل المنوال التنموي الذي يحاول الانكفاء على الذات واعتماد اقتصاد الحرب وتبني الحمائية التجارية.

فما العمل لتفكيك سجن الاحتلال المباشر وغير المباشر؟ وكيف يمكن بناء علاقات ندية سيادية بين الدول؟

المصدر:
جيرار لكلرك، الأنثربولوجيا والاستعمار، ترجمة جورج كتورة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، مجد، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1990،