"نكتب من محجر البيت الطوعي خوفاً من الموت... عسى أن يتّعظ اثريائنا"

كثيرا ما أتتبع أخبار العلماء والأدباء والمبدعين الكبار في كل أنشطة الحياة سواء من مفكّري السلف او من الخلف وقد أغور في حياتهم الخاصة وما مروا به من مسالك هذه الحياة الغريبة الأطوار بمفارقاتها ، في أيام سعدها القليلة وأيام نحسها الكثيرة وقد لفتت نظري الكلمات التي قالها " ستيف جوبز " أيقونة تكنولوجيا الكومبيوترات والهواتف الذكية المحمولة وهو على فراش المرض مصابا بسرطان البنكرياس من النوع النادر الذي يستحيل علاجه ؛ ارتأيت ان أنقل جانبا منها ، فهي حصيلة موجزة لمسيرة حياة رجل عبقريّ دامت أكثر من خمسة عقود.

هذا العالِم الكبير مؤسس شركة أبل الذائعة الصيت في الالكترونيات وقد رسخ بصمة واضحة في الرقيّ البشريّ لعالم وتجارب هذا الإنسان الذي وضع الكوننة خاتما في إصبعه وإصبعنا نحركهُ كيفما نشاء.

ولكي أكون دقيقا انقل كلماته ومشاعره وبعض وصاياه بالترتيب فقرة فقرة إيضاحا للقارئ العزيز وليأخذ منها ما يستسيغه ويرمي ما لا يروق في خانة " الدليد " على حدّ قول الراحل " جوبز ".

هذه فقرات من أقواله وهو في غرفة المستشفى قبل أيام من وفاتهِ ترجمتها بصياغتي بعد ان أيقنت ان ترجماتها الاخرى خالية من الهدف التربوي الذي كان يعنيه بيل غيتس :

1— رغم كلّ النجاح الباهر الذي حققـتُـه في عالم الأعمال الالكترونية ؛ فحياتي خير أنموذج للرقيّ العقلي والمالي لكنني لم أفرح سوى فترات قصيرة في محطات عمري ، وكل ثرائي الهائل الذي اعتدته لم يجلب لي سعادة غامرة كما كنت أتمنّى.

2— كل هذه الشهرة والثروة التي جنيتها مفاخرا تبدوان شاحبتين وبلا معنى في مواجهة موتٍ قريب مني مثل حبل الوريد ، ففي تلك اللحظات التي أكون فيها سقيما طريح الفراش تتداعى سنيّ حياتي أمام ناظري وأهزأ على نفسي كيف لي أن افخر بكل ما حققته طالما ان الموت سيأخذني على حين غرّة ، آه ، كم كان رهاني خاسرا.

3— كثيرا ما انظر الى هذا الجهاز الطبّيّ المعقّد الذي يُبقيني حيّا حتى هذه الساعة في مشفاي وارى ضوءه الأخضر يهمهم ويدقّ معلنا اقتراب رحيلي ؛ وها هي أنفاس الموت تختلط مع أنفاسي في شهيقها وزفيرها. وإذا كانت أموالي المتراكمة قد قوّمتني وأنا حيّ معافى فما نفع ثروتي العاجزة وهي لا تقدر أن تعيد لي بضعة أيام مضافة أعيشها خارج غرفة المستشفى الآن.

4— أعلن اني أخطأت خطأ فادحا بجمع كل هذا الغنى الذي لا معنى له وكان عليّ أن أسير في طريق آخر وأتابع أمورا كثيرة لا تحصى غير جمع المال ؛ مثل توطيد العلاقات الإنسانية والصداقات الحميمة او رعاية الفن والأدب والانجازات الكبرى لصالح أخوّتنا ونظرائنا في الخلق أو حتى تحقيق أحلامي الشبابية التي ضيّعتها في خضم انشغالي بزيادة رصيدي وتعزيز ثروتي التي عجزتْ أن تنفعني وتطيل من أمدي.
عليّ أن اعترف أني كنت كائنا ملتويا وهذه هي سوءات ملاحقة الثروة.

5— وأنا في هذه الحال قد انحنى ظهري ولم أعد أفكر بالمال ثم أني محال ان اجمع كل تلك الثروة المتراكمة التي ادّخرتها في حياتي وآخذها معي للعالم الآخر وكل ذخيرتي التي سأنقلها بعد موتي هي ذكرياتي المكتنزة بالحب لا بالمال التي لملمتها من سنواتي في الكدح والكفاح والدراسة والبحث المضني وهي كما احسب الغنى الحقيقي لي.

6— أقول ناصحاً وأنا على سرير المرض وأوصي بتوسعة المحبة ولتكن صدوركم رحبة وقلوبكم مخازن للمودة ولتستمروا بنشر الحب حتى يخترق كل بقاع الأرض قاطعا آلاف الأميال ليصل إلى كل إنسان ولو كان منزويا في ابعد مكان ؛ فلا حدود للحياة لو رافقها الحب لأنه مصدر القوة الإنسانية ومبعث النور الكامن في النفس البشرية.
افتحوا كل حواسّكم التي وهبها الله لكم للحب فهي مفتاح لأبواب القلوب وحاذروا السعي وراء الثروة واقتنعوا بالكفاف فإنها لا تقدّم سوى الأوهام.
أيها الإنسان ؛ لا تضيّع تلك الإرادة القوية الكامنة في قلبك على هيأة عزيمة وتفانٍ فيك لتركض وتمسك وهما.

7— أحبوا عائلتكم الصغيرة ، الزوجة والأطفال ، وأصدقاءكم المقرّبين ومن خلالهم كي يعبر الحب إلى الإنسانية وهي العائلة الكبرى وأحسنوا معاملة أنفسكم مثلما تحسنوا معاملة الغير وحافظوا على البيئة والمخلوقات الأخرى التي تشاركنا العيش بهذه المعمورة.

8— إن سرير المرض هو السرير الأغلى في عالمنا ، لن تجد أبدا من يرضى أن تعطيه مرضا وينام بديلا عنك مهما أكرمتَه وكافأته ماليا ، ربما تجد من يقود لك سيارتك او يُعينك على كسب المال او يوفّر طعامك لكنك محال ان تلقى من يمرض عوضا عنك ،... كثيرا ما تستطيع ان تعثر على أشياء فقدتها في غفلة ما لكن شيئا واحدا لا تستطيع استرجاعه أبدا وهي الحياة والبقاء حتى في أحلك الظروف ، حتى المؤمنون بالنعيم والجنان يطمحون الى الخلود في الدار الأخرى.

9— عندما يدخل الإنسان الى غرفة العمليات الجراحية (هذه العبارة قالها وهو يدخل الى غرفة العمليات لزراعة كبد صناعي في جسدهِ ) يدرك جليّا بان كتابا واحدا فقط يتمثّل أمام عينيه وعليه ان يقرأه بإمعان ودراية تامتين الا وهو كتاب الحياة الصحية النموذجية وكم اعتب على نفسي لأني نسيته في أعلى رفوف مكتبتي ولم أكلّف نفسي عناء الارتقاء إليه وقراءته لأني كنت مكبّا على عملي ومشغولا بثروتي الهائلة التي صدعت رأسي مرارا وعليكم انتم ان تولوا رعاية هذا الكتاب وتقرأونهُ حتى النهاية مهما كانت مشاغلكم جمّة ، ومع ان الموت محتّم فما أجمل ان نلقاه ونحن بوافر العافية كي لا نتعب أنفسنا بالأسقام في مراحل العمر الأخيرة على الأخصّ ولا نرهق من يحيط بنا من عائلتنا وأحبابنا.

هذا هو مجمل ما قاله جوبز في فترة علاجه وإقامته في المشفى وقد تساءلت مع نفسي وقلت في سرّي ؛ لو لم يمرض هذا العبقريّ فهل سيفكر بالشكل الذي يفكّره المريض المعنّى ؟؟؟ أترى هل كانت هذه المعاناة الشديدة وهو مضطجع على فراش المرض قد حفّزته على العودة الى بُعدهِ الإنساني الشارد بعيدا ، أما كان الأجدر به أن يلاحق إنسانيته المفقودة ويظفر بها مادام في عزّ قوته وفرط عافيته ؟؟ !!
هذه هي اذاً معضلة الإنسان الكبرى الذي لا يتقن درس الحياة إلاّ بعد فوات الأوان فلا نشعر بالوجع وتأنيب الضمير الاّ عندما يصيبنا الهوان والضعف والارتخاء.

ما أجمل ثوب الحياة لولا انه قابل للتمزق والاتساخ سنة اثر أخرى.
ما أستره لولا قصره وما أضيقه لو تهدلت كروشنا وتورّمت أبداننا سقما وانتفاخا بالمال.

مجدا وخلودا لك ياستيف نعرف انك أحببتَ زوجتك " لورين " حبّا أسطوريّا " ، انت لم تمت الاّ جسداً والبقاء الدائم لكل عبقري ومخترع أضفى منفعة للبشرية وأراح عنها عناء الجهد والكدح وأسعد النفوس وأوسع الضحكة والمرح في وجوه بني جنسهِ.