حين بدأت عظامه تبرد، وأخذ عقله الجبّار يتهاوى شيئا فشيئا تحت وقع المداهمات العنيفة والمتتالية لتلك الكوابيس المرعبة التي قادته الى عتمة الجنون تماما مثلما كان الحال مع هولدرلين، قَطَعَ نيتشه صلاته بصديقه القديم الموسيقار الشهير فاغنر، وبألمانيا الرماديّة الصّارمة، ليشرع في رحلة استكشافيّة لبلاد الشرق قادته الى شعراء "التروبادور"، والى سمفونيّات "بيزي" المرحة، وإلى شواطئ المتوسط على الساحل الفرنسي والايطالي. ولم يكن هدف نيتشه من تلك الرحلات ينحصر فقط في البحث عن الدفء، وعن النور، وانما كان يرمي الى الاقتراب أكثر فأكثر من الينابيع الأولى للفلسفة المتجسّدة في فلاسفة الإغريق الكبار امثال سقواط، وأرسطو،و هيراقليطس، وبارمينيدس، وغيرهم.

ومن المؤكد أن هذا العشق للفلسفة اليونانية هو الذي أوحى الى نيتشه بكتابة آثاره الخالدة مثل "هكذا تحدث زرادشت"، و"ولادة التراجيديا"، و"المعرفة المرحة". ولم يكن هو الوحيد الذي هام بالفلاسفة اليونانيين، جاعلا من مؤلفاتهم مصدرا أساسيا لفلسفته. وبإمكاننا أن نقول بإن جميع الفلاسفة والمفكرين الملهمين للثورات العلمية والسياسية والثقافية، والتي عرفتها اوروبا منذ عصر النهضة وحتى هذه الساعة ،كانوا من المدمنين على قراءة آثار الفلاسفة والشعراء اليونانيين القدماء. وجميع هؤلاء كانوا يعودون في أوقات الضِيق الكبرى، وفقدان التوازن، إلى مؤلّفات سقراط، وافلاطون، وأرسطو، وهيراقليطس، بحثا عن ما يساعدهم على تبديد العتمة التي تلفّ عالمهم .

وكان هايدغر، أب الفلسفة الوجودية المعاصرة، يعتبر العودة الى الفلسفة اليونانية ضرورية وأساسية. والشيء الذي يؤكّد لنا ذلك هو أنه-أي هايدغر-افتتح مؤلفه الشهير :”الوجود والزمن" بجملة لأفلاطون وكأنه يرغب في أن يبرز بشكل واضح ان مشاكل الكينونة والزمن كانت قد طرحت بصفة شاملة من قبل فلاسفة اليونان القدماء. وأشار الفيلسوف الفرنسي جان بوفري مترجم هايدغر الى لغة ديكارت بإن الاغريق كانوا دون علم منهم "المهندسين الاوائل للوجود". ويوافق الفرنسيّ الآخر جان ماري روّار جان بوفري الرأي ،ويكتب قائلا :”الفكر الاغريقي يسكننا شئنا ذلك أم أبينا. وهذا الفكر هو الذي شكّل طريقتنا في التفكير، وفي التمسّك بمعتقداتنا، وعاداتنا، ومؤسساتنا، وحضارتنا".

ونحن نعلم أن العرب قبل انهيارهم الحضاري والفكري اهتموا بالفلسفة اليونانية، وتأثروا بها حتى أنهم كانوا يصفون أرسطو ب"المعلم الكبير". تشهد على ذلك مؤلفات إبن رشد، ابن سينا، والفارابي، والمعتزلة. و بل أن دلائل كثيرة تثبت أن العرب هم الذين نقلوا الفلسفة اليونانية إلى أوروبا عند نهوضها من ظلمات القرون الوسطى. خلال النصف الأول من القرن العشرين، أظهر البعض من المفكرين العرب أمثال لطفي السيد، وطه حسين، ولويس عوض اهتماما كبيرا بالفلسفة اليونانية باعتبار أن جنوب المتوسط كان من المساهمين في انتشارها وازدهارها من خلال مدرسة الإسكندرية المتمثلة في أفلوطين. إلاّ أن هذا الإهتمام راح يتضاءل ويتضاءل إلى أن كاد ينعدم تماما. ويعود ذلك إلى أن جل الجامعات العربية تعزف عن تدريسها. وحى وإن درستها فإنها تنتهج طرقا سطحية تعيق الإستفادة منها، والعمل بأساليبها المتمثلة بالخصوص في الجدل المولد للافكار، والمحرض على القبول بالإخلاف وبالرأي الآخر، وعدم التمسك بالمسلمات.

وعرب هذا الزمن لا يعرفون معنى الجدل بحسب المفهوم الفلسفي الإغريق، لذلك تكثر الخلافات بينهم، وينعدم الحوار الجدي بهدف أن يكون تعدد الأفكار باعثا على التقدم والرقي، وليس على التطاحن والإقتتال، و"التدافع الإجتماعي" بحسب تعبير أحد القادة الأصوليين. وغياب مثل هذا الجدال يجعل الأفراد والمجموعات يتشبثون بالمسلمات واليقينيّات، ويذهبون إلى هذا المنتدى أو ذاك لا لشرح أفكارهم، وتوضيحها، ومقارعتها بالأفكار الأخرى، وإنما لفرضها بقوة السلاح إن لزم الأمر. وهذا ما يفسر الفقر الفكري والفلسفي الذي نعيشه راهنا، والجدل العقيم الذي يخيم بظلاله القاتمة على حياة العرب السياسية و الثقافية.