ليس بإمكاني تقييم الشاعرين الكبيرين محمود درويش وسليم بركات. هناك نقاد كتبوا أبحاثاً عميقة عن نتاجهما. وهناك طلاب حصلوا على شهادات ماجستير ودكتوراه في الجامعات بتقديم اطروحات حول أدب هذين الشاعرين العربيين المتميزين في العصر الراهن. قد يستغرب البعض أنني اعتبرت سليم بركات عربياً وليس كردياً. فهو كشاعر عربي دون شك. لقد استوطن في اللغة العربية لدرجة التماهي معها أكثر من أي شاعر عربي. وبتقديري هوية الشاعر لغته التي يكتب بها ونتاجه. أما سليم بركات كإنسان، فلا يشك أحد بكرديته. فهو من والدين كرديين ولغته الأم كانت كردية وترعرع في طفولته وصباه في مجتمع كردي.

قرأت مثل الكثيرين مقاله "محمود درويش وأنا" التي أحدثت ضجة بين القراء والكتاب. ولا أدري لماذا تذكرت الشاعر العراقي مظفر نواب عندما انتهيت من قراءة المقال. فقد افتتح مظفر النواب احدى أمسياته الشعرية بهذا القول:
أما أنا فلا أخلع صاحبي
عاشرته وخبرته وعرفته
ولذا لا أخلع صاحبي.
فهل خلع سليم بركات صاحبه في هذا المقال؟

لكل انسان دفتر أسراره، ولا يحق لأحد أن يتلصص على هذا الدفتر ويقرأ منه شيئاً للناس، خصوصاً إذا كان الأمر ضمن الخصوصية الشخصية. هناك العديد من الشعراء والمفكرين القدماء كشفوا بعض أسرارهم بالذات في مذكراتهم وبجرأة نادرة. وعلى الرغم من ادانة المجتمع حينها لهذه الأسرار، إلا أن هذا الكشف دل على خلفية فكرية عميقة لديهم. عندما يقول انسان ما "هذه حقيقتي واحكموا عليّ كما تشاؤون" فهذا موقف فكري نادر لا يستطيع أي انسان القيام به.

يحق للقارئ أن يتساءل: ألا توجد أسرار في حياة سليم بركات أيضاً. وربما سرد بعضها لأقرب أصدقائه مثل محمود درويش؟ روى لي الشاعر المرحوم ابراهيم الجرادي (وهو صديق الطفولة) عندما كنا ندرس سوياً في الاتحاد السوفييتي في سبعينيات القرن الماضي، حادثة لسليم بركات في لقائه الأول مع الشاعر علي الجندي، عندما كان الأخير رئيس تحرير الصفحة الأدبية الأسبوعية لجريدة الثورة. لا أعتقد أن سليم بركات يرغب أن يذكّره أحد بتلك الحادثة. لم يفش بها ابراهيم الجرادي في أي مقال كتبه، حسب متابعتي لكتاباته. هذه الحادثة. وعندما رواها لي، فكان من باب المديح لتطور سليم بركات من انسان بسيط إلى شاعر مشهور.

2
الصديق موطن سر الصديق كما يقال. وبالتالي قد لا يُدهش القارئ ما كشف سليم بركات سراً لصديقه. وإنما لماذا كشف عن هذا السر بعد موت صاحبه. ولنضيف أن سليم بركات ليس انساناً عادياً يحب الثرثرة. عندما يكتب شيئاً، فهو يكتب عن دراية. وبالتالي من حق القارئ أن يسأل ماذا وراء افشاء هذا السر بعد أن غادرنا محمود إلى الخلود الأبدي؟

كتب سليم بركات في مقاله أن محمود درويش قال له مرة: “لي طفلة. أنا أبٌ. لكن لا شيء فيَّ يشدُّني إلى أبوَّةٍ”. لو صاغ سليم الموضوع بهدف تذكير القراء أن صديقه لم يكن عقيماً، بدليل ما قال له أن لديه طفلة غير شرعية. لو جاء إفشاء السر بهذه الطريقة، لما شكل إساءة لصديقه، بل بالإمكان اعتباره دفاعاً عن جانب من جوانب خصوصيات صديقه التي لا يعلم عنها أحد غيره. لكن سليم لم يصغ المسألة بهذا الشكل، بل استرسل في الموضوع أن ابنته من امرأة متزوجة، وزاد في الطين بلة أن تلك المرأة اتصلت به تلفونياً عدة مرات وأخبرته الحقيقة. وكأنه يريد أن يقول أن هذه الخيانة الزوجية تمت عن دراية. عندما يقول سليم بركات أن محمود درويش قال أنه لا يشعر بالأبوة وأنه تجاهل أمر البنت نهائياً، فإن تفكير القارئ سيذهب إلى انجاه أن محمود درويش خال من العواطف والمشاعر الانسانية. وأنه لم يكن صادقاً في شعره عن الحب وأمه والوطن والشعب. بمعنى آخر أن كل ما كتبه محمود لم ينبثق من قلب يحمل عاطفة وشعوراً انسانياً. ربما يقول أحدهم لم يقصد سليم بركات ما ذهبتَ إليه، لكنني أعتقد أن أي قارئ سيفكر مثل ما فكرت. فسليم بركات من الشعراء العرب يعرف كيف يُجلس الكلمة في الجملة لتعبر عما يريد سليم وليس المعنى القاموسي للكلمة. يحق لنا أن نقول من الناحية الأخلاقية لم يكن سليم بركات صديقاً وفياً لمحمود درويش.

هل فكر شاعرنا الكبير أن كشف هذا السر قد يخلق مشكلة لأغلب العائلات التي كان محمود درويش يدخل منزلها بترحاب ولديها الآن صبية كبيرة؟ قد يقوم رجل العائلة، بعد قراءته لمقال سليم، بإجراء فحص جيني لبنته كي يعرف إذا كانت من صلبه أم لا. هل فكر سليم بركات بكل هذا قبل أن بفشي سر صديقه؟ أم أنه محدود التفكير؟

أريد الدفاع عن الجانب الأهم في محمود درويش. أقصد لا يمكن التشكيك بالجانب العاطفي والانساني لمحمود درويش كإنسان وكشاعر. فشعره يتكلم عن هذه الخاصية بوضوح أكثر من تحليل واستنتاج أي ناقد. كان محمود درويش عاشقاً لشعبه، وحاملاً لواء قضيته بجدارة. من منا لم يستمع لعشرات المرات لقصيدته عن تل الزعتر. ندرك من خلال الكم الكبير لشعره أن محمود درويش كان يتألم مثل الطفل لآلام شعبه، ويناضل مثل المقاتل الباسل دفاعاً عنه. لو جردنا شعره من قضية الشعب الفلسطيني، ماذا يبقى من هذا الشعر؟ بينما سليم بركات لا يماثله بهذه الخاصية تجاه شعبه الذي عانى تاريخياً وحتى الآن أكثر من الشعب الفلسطيني. لم يكن لدى سليم أدنى التفاتة إلى قضية شعبه الكردي، لا قومياً ولا عاطفياً ولا انسانياً. إنه مجرد شاعر قطع جذوره بإرادته، وبات يسبح في فراغ اللا انتماء.

هناك نقطتان سوداويتان في تاريخ سليم بركات تجاه شعبه. الأولى عندما أرسل مع مجموعة من الشعراء العرب برقية إلى صدام حسين أثناء مشاركته في مهرجان المربد السادس سنة 1985 (كانت البرقية موقعة من محمود درويش وسليم بركات وشربل داغر وجابر عصفور وحسونة المصباحي وآخرون). ولعل محتوى البرقية تدل بوضوح أن سليم بركات يوقع بنفسه على تخليه من الانتماء لشعبه. تقول البرقية : "لقد رأينا يا سيادة الرئيس كيف تقذفون بالحق على الباطل بكلمة فإذا هو زاهق. وكيف تُشمِّرون عن سواعدكم بكلمة لإضاءة موطن المستقبل العربي... وليس لنا نحن الأدباء والشعراء العرب المشاركين في مهرجان المربد السادس إلا أن نتوضّأ بماء النصر الذي قدْتم العراق إليه، فحملتم به عبئاً عنا وقدَّمتموه لنا هدية، هي هدية التاريخ للأجيال القادمة ضوءاً وأمثولة وفداء".
https://elaph.com/Web/Culture/2011/10/688942.html.

قد لا أعاتب الشعراء العرب الذين وقعوا على هذه البرقية لكون صدام حسين عربي، وكان هؤلاء الشعراء العرب يعتبرونه بطلاً عربياً، وربما يعتبرون الكرد عملاء الامبريالية والصهيونية والجيب العميل في شمال العراق مثلما كان ينظّر الحزبان البعثيان في العراق وسوريا بهذه الشعارات، وكررها صدام حسين في خطاباته الجماهيرية أيضاً. ولكن أن يوقع سليم بركات الكردي على هذه البرقية، وهو يعرف الجرائم التي ارتكبها صدام حسين والنظام البعثي ضد الشعب الكردي في كردستان العراق، فهذه ليست مجرد سقطة، وإنما عدمية عمياء تجاه الشعب الذي ينتمي إليه، هذا الشعب الذي يبحث عن أبسط حقوق له وهي حق الوجود والهوية الخاصة به.

النقطة السوداء الثانية في تاريخ سليم بركات، كانت تجاه شعبه الكردي في سوريا. عندما سيطرت قوات حزب الاتحاد الديمقراطي على المناطق الكردية التي انسحب منها النظام السوري بعد الثورة السورية، كتب مقاله المشهور بعنوان "سوريا وأكرادُها". يبدأ في مقاله الهجوم الشرس ضد حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان في شخصية حزب الاتحاد الديمقراطي وقواته المسلحة. يقول: " نحن الكرد السوريين لا نريد أصناماً على مداخل الشمال السوري ومخارجه..". أتفق معه بأن لا يكون هدف الكردي في سوريا تبديل أصنام بأصنام. ولكن.. هل فكر سليم بركات أنه في تلك البرقية إلى صدام حسين كان يعظم صنماً أكثر طاغية حتى من حافظ الأسد. نعرف أن سليم بركات لا يهتم بالسياسة. فما الذي حركه فجأة ليقف ضد حزب الاتحاد الديمقراطي وأنصار عبد الله أوجلان السجين لدى الطغمة الطورانية؟ هل أدرك سليم بركات أن حزب الاتحاد الديمقراطي يدخل في معركة مصيرية من أجل وجود الشعب الكردي السوري وحقه في الحصول على هويته؟ هل كتب سليم بركات مقالاً واحد قبل هذا التاريخ عن الظلم الذي تعرض له كرد سوريا وشعب سوريا عامة طيلة نصف قرن من سلطة حزب البعث؟ هل كتب عن أصنام حافظ الأسد وبشار الأسد بهذه الحدية إلا في هذا المقال لكي يوظف ذلك للهجوم على حزب العمال الكردستاني؟ هل هناك قصيدة واحدة كتبها سليم بركات عن الشعب الكردي السوري حتى ذلك التاريخ مقارنة بمحمود درويش الذي كرس حياته وأغلب شعره لقضية شعبه؟ لماذا لم يتأثر بصديقه الذي كان يعرف معرفة كاملة أن ياسر عرفات لا يختلف عن أي دكتاتور عربي، وأنه جلس على كرسي قيادة الشعب الفلسطيني منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي وحتى وفاته. يختزل الفرق بين الصديقين أن محمود درويش كان يدرك خصوصيات المرحلة التي يمر بها الشعب الفلسطيني، ولذلك لم يشن نقداً لاذعاً لياسر عرفات. فهو، إلى جانب كونه شاعراً كبيراً، كان يفهم ضرورات النضال السياسي لشعب يريد الحصول على حقه. بينما سليم بركات قلع جذوره بنفسه، وبات ابن فراغ اللا انتماء، ولا تهمه أصلاً قضية الشعب الكردي.

لا أعتقد أن ثقة الشعب الفلسطيني وكل معجبي محمود درويش ستتزعزع بعد مقال سليم بركات. قد يقول قائل أن سليم بركات لم يقصد كل ذلك. عندئذ ستكون الطامة الكبرى بأن شاعراً كبيراً وفي الوقت نفسه ساذجاً لهذه الدرجة في عدم توقع إلى أين بالإمكان أن يذهب بعيداً هذا السر الذي كشفه.

3
ربما سنغفر لسليم بركات، كقراء شعره على هذه السقطة من مبدأ "جلّ من لا يخطئ"، ونعتبره زلة لسان. لأننا غالباً هكذا نتصرف مع المشاهير. أما أن يقول أن محمود درويش " جاهدَ كي لا يتأثر بي"، فهذه سقطة لن يغفر له أحد. لا يستند هذا الغرور لأي سند، سوى الطعن بصديقه واستصغاره. هل يحاول سليم بركات استغباء عقولنا وكأننا لا نفه الشعر، ولا نستطيع معرفة الفرق الشاسع بين مدرسة محمود درويش الشعرية ومدرسة سليم بركات؟
لا شك أن النقاد قادرون على إظهار التمايز بين شعر محمود درويش وشعر سليم بركات. هذا التمايز الذي يصل إلى درجة وكأن الشاعران لم يطلعا في حياتهما على شعر بعضهما بعضاً. من يقرأ شعر محمود درويش، إلى جانب جمالية شعره، يكتشف أنه أمام شاعر ومثقف ومناضل. تختلف مواضيع شعره وأسلوبه وطريقة خلق صوره الشعرية عن سليم بركات اختلاقاً جذرياً.

فمحمود واسع الثقافة ليس بثقافة العصر وحدها، بل نتلمس في شعره معرفته بالتاريخ واطلاعه على الأساطير وعلى الأدب العالمي. بينما سليم بركات يسبح في قواميس اللغة العربية وفي الكتب التراثية للفقه اللغوي، لدرجة عندما تقرأ شعره لا تعرف إلى أي عصر ينتمي هذا الشاعر. فهو في شعره خارج الزمان والمكان. بل لا تشعر أنك أمام مثقف، ولديه اطلاع على الفكر المعاصر وعلى التاريخ، بل قلما تجد توظيفه للأساطير في شعره. مما يدل أنه غير مطلع على الأساطير العالمية والشرقية خاصة. كيف خطر على بال سليم بركات أن محمود درويش يجاهد كيف لا يتأثر به؟ فمحمود شاعر قضية بامتياز، له هويته الفكرية والسياسية ويدافع عنهما ببسالة. بينما سليم بركات شاعر بدون هوية فكرية وسياسية، إنه مجرد نحات يصنع لنا تماثيل جميلة للكليمات.

وباستثناء ديوانه الأول الذي نجد فيه شذرات من العاطفة وشعوره تجاه شعبه، ربما كان سبب تلك المشاعر في هذا الديوان يعود إلى كونه كان ما يزال يعيش في كنف شعبه في الجزيرة. إذا تجاوزنا هذا الديوان نستطيع القول أن سليم بركات عدمي الانتماء.

قلما نجد في شعر سليم بركات مظاهر الحب والعواطف الانسانية العميقة. كلما أقرأ شعر سليم بركات أشعر أنني أسبح في بحر من الكلمات ذات الصياغات النادرة والمتمردة على القواميس، وأتيه بين صور شعرية تتلاطم مثل الأمواج الهائجة التي لا ضفاف لها. أكاد أغرق دون أن أجد دفة انقاذ. وأقصد بالدفة هنا "الموضوع". فشعر سليم بركات في الحقيقة بدون موضوع. ولا أدري كيف توهم أن محمود درويش كان يجاهد كي لا يتأثر به، وهو شاعر عدمي لا يتفن سوى السفر في اللغة دون موضوع ودون قضية ودون رسالة بعكس محمود درويش.