تلعب الصحافة ووسائل الإعلام دورا مميزا في الدول الديمقراطية، وهناك العديد من قضايا الفساد، وشبهات الرشوة التي تورط فيها سياسيون كبار، واستطاعت الصحافة كشفها.

كما أن هناك من يتهم أحيانا الصحافة بالابتزاز واتباع اجندات مشبهوة. وعندما تختلف الصحافة مع السلطة الحاكمة فالعقوبة تختلف باختلاف نوع السلطة الحاكمة ، فالديمقراطية تلجأ للقضاء، والديكتاتورية تلجأ للتنكيل والسجن ومنع الصحف من الصدور.

عموما لسنا هنا بصدد محاكمة أي طرف، إنما نريد أن نفهم الدور الحقيقي للصحافة، والتي لا أحد يستطيع أن يثنيها عن دورها الرقابي المنوط بها في حماية مصالح الشعب، لكن أن يتم تهميش دورها، وانتهاك قوانينها، وحبس صحفييها فإن ذلك يضعفها، ويغير وجهها الحقيقي إلى وجه زائف يمجد الفساد ويعلي قيمة الفاسدين.

هنا أريد أن أسوق مثالا ناصعا لكيفية عمل الصحفي، الذي سجن بسبب أفكاره، لكن المبادئ الثابتة والصحيحة تنتصر في النهاية فيرحل الجلاد ويخرج الصحفي من وراء القضبان عزيزا مكرما.

أكثر ما يعبر عن المثال الذي اريده هنا، هو الصحقي والكاتب التشيكي فاتسلاف هافيل الذي أعتبره خير مثال لما يحدث اليوم من التضييق على الصحفيين وحبسهم. لقد نكل النظام الشيوعي آنذاك به، وأدخله السجن ، ومنعه من الكتابة ..ليخرج بعدها بطلا قوميا، ورئيسا لبلاده بعد أن سقطت الشيوعية وانتصرت الثورة المخملية في سنة 1989.

الكتاب والصحفيون حول العالم لا يملكون أسلحة ولا صواريخ، بل أقلاما، وأوراقا، يخطون عليها أفكار، ورؤى، وتحليلات للمواقف الراهنة، وآراء شخصية هي في الغالب نتاج فكر وثقافة الكاتب الذي قد ينحاز لها، أو يحدث العكس ويختلف معها، وفي النهاية هذا حقه ككاتب يطرح تصوره ونتفق معه أو تختلف، لكن لا يجب تعنيفه، ومحاربته، ومنعه من الكتابة، وحبسه إذا لم تتوافق رؤيته مع رؤية أهل الحكم.

لا يدخل الكتاب في الدول الديمقراطية السجن عادة، فهم عين الحقيقة التي تضللها السياسة أحيانا، ولا يشكلون خطرا على عروش الحكام لأنهم نبض الشارع الذي ينير للحاكم طريقه، لذلك تزداد الديمقراطيات رسوخا مع حرية الكتاب والصحفيين، وتضعف وتنهار بفسادهم ، فالإعلام الحر منارة تهدي الناس إلى شواطئ السلم الاجتماعي، والفهم المتبادل بين الحاكم والمحكومين.

الناس ليسوا أغبياء فلهم الحق في سماع المختلف، ولهم الحكم في النهاية، إن أسوأ شيء في الحياة هو تهميش العقل وتزييف الحقائق ، وتظل طول الوقت تسمع صوتا واحدا ورأيا واحدا لايتغير، لهذا يكون دور الكاتب الحر مهما في إظهار الحقيقة وتنمية عقل الناس.

نعود إلي هافل الذي ذهب إلى السجن بسبب مسرحية له، ففي عام 1963 كتب مسرحيته حفلة في الحديقة وفيها سخر من نظام الحكم الشمولي في بلاده، وندد به ، وهاجم الديكتاتورية الشمولية، وانتهز الشيوعيون الفرصة وقاموا بتجهيز قضية له ضموا فيها سلسلة مقالات قديمة كان ينتقد فيها أهل الحكم ويدعو إلي التحرر، إلا أن القضاء الموالي للشيوعيين حكم عليه بالسجن 4 سنوات.

إذن ما حدث لهافل للأسف الشديد مازال يحدث حتى الآن من قبل الأنظمة التي لم تفهم حركة التاريخ، وتصر على السير عكسها، أنه حدث مازال موجودا ويتكرر مع كل أنظمة الاستبداد حيث يذهب أصحاب الرأي الحر إلى السجن بسبب جرأتهم في التطرق إلى موضوعات لا ترضي الديكتاتوريات، وهناك دائما قسمان قسم تستطيع السلطة ترويضه ومن ثم إخضاعه لطاعة الحاكم، وآخر يرفض ويحترم خصاله المفعمة بالحرية والحس الأدبي والأخلاقي فيرفض أن ينساق في غير ما يؤمن به.

هكذا كان هافل من هذا النوع فقد خرج من السجن و استمر في الدفاع عن الحريات في بلاده، وشارك في ربيع براغ عام 1968 الذي سحقته الدبابات الروسية، وبعدها تم منعه من ممارسة عمله كاتباً ومحرراً ، واضطر تحت ضغط الحاجة للاشتغال عاملا يدويا في مصنع بيرة.

نجحت الثورة المخملية في نهاية المطاف في نوفمبر من عام 1989 في إقصاء النظام الشيوعي عن الحكم، وإثر ذلك تولي هافل رئاسة تشيكوسلوفاكيا في 29 ديسمبر 1989 حتى 20 يوليو 1992، ثم بعد ذلك رئاسة جمهورية التشيك بعد انفصالها عن سلوفاكيا في 2 فبراير 1993 وحتى 2 فبراير 2003.

وهنا يظهر الفرق الكبير بين الحاكم المفكر ودمي الحكم الشيوعي الذين كانوا يحكمون بالحديد والنار، فبعد سنوات من حكم هافل نجده في خطاب له يتحدث عن سنوات حكمه لا ليتغنى بإنجازات وهمية، ولا بشعارات جوفاء، لكنه يعلي القيم الإنسانية فيقول: كنت أعتقد أن منصب رئيس الدولة الكبير سيعطيني الكثير من الثقة في النفس لكني اكتشفت أنني أصبحت أقل ثقة في النفس وأكثر تواضعاً من ذي قبل.

على عكس صورة الديكتاتور الذي يحرص على أن تلازم صورته حياة المواطنين طيلة ال 24 ساعة، لم يكن هافل سعيدا بالظهور المتكرر على الملأ أمام الناس دون سبب وجيه، لأنه ببساطة كان يخاف أن يصيب ظهوره المتكرر الناس بالملل. أو خوفا من عدم قدرته على تحقيق آمالهم وحل مشاكلهم.

الديكتاتور لا ينتقد نفسه، وتتضخم الأنا عنده بشكل كبير، ويشعر بأنه فلته زمانه، أما هافل فكان شديد النقد للذات وهي خاصية يتميز بها الشعراء والكتاب مرهفين الحس .فالحاكم الفاهم هو أقرب إلى الناس، فهو يجد نفسه داخلهم وهذا بالضبط ما قاله هافل في آخر خطاب له كلما زاد عدد أعدائي، أجد نفسي في داخلي معهم وضد نفسي فهم على حق في نقدهم لي ..ويستطرد قائلا لقد أصبحت أسوأ عدو لنفسي ، وهذا أكبر دليل على أن هافل كانت تغلب عليه الثقافة وعلوم الأدب أكثر من زيف السياسة والبحث عن مجد زائف ينقضي فور زوال السلطة عنه.

ليس مهما أن يكون الكاتب رئيسا للجهورية، بل من المهم الحفاظ على الكتاب والصحفيين وتشجيعهم على ممارسة عملهم بحرية وفي ظل حماية القانون، لآن ذلك ببساطة يدعم أركان السلطة ويطمئن الناس على قيم الحق والعدالة.

كاتب مصري مقيم في ألمانيا

[email protected]