في مقال له نشر في مجلة "أفريك أكسيون" في عددها الصادر يوم 20 مارس-آذار 1961، وحمل عنوان "شبح أندلسيّ على حيطان مدريد"، احتفى الكاتب الجزائري المرموق كاتب ياسين الذي كان آنذاك مقيما في تونس، بالشاعر الاندلسي الشهير فريديريكو غارسيا لوركا الذي قتله أنصار الجنرال فرانكو بأمر منه في بداية الحرب الاهلية الإسبانية.

وفي ذلك المقال كتب صاحب "نجمة" يقول: ”على حيطان مدريد ظهر للتوّ اسم من الدم: فريديركو غارسيا لوركا.

”يارما"، وهي واحدة من أجمل التراجيديّات التي ألّفها الشاعر الاندلسي الكبير الذي قتل رميا بالرصاص بأمر من فرانكو،كانت على واجهة أحد المسارح في العاصمة الاسبانيّة. لم يقل فرانكو شيئا.كما أنه لم يفعل شيئا. وماذا بإمكانه أن يفعل؟وماذا سيقول؟ وماذا باستطاعة القاتل أن يفعل أمام الشاعر العبقري؟منذ مقتله، لم ينس لوركا اسبانيا واحدا .من "كاطالانيا"،الى الاندلس ،وانطلاقا من الكوخ الغجري المعتم الى مقاهي الطلبة،الجميع يعرفون من هو لوركا.

وليس هناك قرية واحدة لا تنشد فيها أشعاره.ومنذ مقتله والى حدّ هذه الساعة ،لم تجرؤ المسارح الاسبانية على تقديم أي واحدة من مسرحياته ،غير أن أعماله غزت العالم بأسره، وترجمت الى العديد من اللغات، وبيعت بملايين النسخ.بإمكاننا أن نقتل شاعرا ،غير أنه ليس بإمكاننا أن نقتل الشعر. لكن من هو هذا الشبح؟ وكيف يتجرّأ أن يظهر مجددا في اسبانيا التي يحكمها فرانكو؟...

هو ولد في قرية صغيرة قرب غرناطة.وكان يعاني من الضجر في المدرسة.وفي سنّ الخامسة عشرة،كانت الموسيقى سلواه الوحيدة.لذا أهمل الآداب ،والقانون مفضّلا البيانو.وفي ما بعد سوف يلتقي مانويل دوفالا صاحب"الحب الساحر" الذي كان قد تجاوز آنذاك سنّ الاربعين. ورغم فارق السن بينهما، فإنهما ارتبطا بعلاقة وطيدة. ومعا سيعشقان الفولكلور.

وقد بدأ الشاب لوركا مسيرته الأدبية بتنقيح وتهذيب أكثر من 300 أغنية شعبيّة.وفي نفس الوقت ،كتب أولى مسرحيّاته.وقبل أن يشتهر ،استقر في مدريد.وكان أصدقاؤه، لويس بونيال،السينمائي الطلائعي، وخمينيث، الذي سيحرز في ما بعد على جائزة نوبل للآداب، والفنان العبقري سالفادور دالي. ولم يكن لوركا قد بلغ العشرين بعد.وكانت عائلته مترفهة.لذا التحق بجامعة "كولومبيا" بنيويورك.غير أنه لم يعد من هناك بأيّة شهادة،بل بواحدة من أعظم القصائد الغنائية في العالم ،أعني بذلك:”مرثية الغجري" .ومنذ ذلك الحين، اعترف به في اسبانيا كأحد أفضل شعرائها.لكن لوركا لم يتوقّف عند ذلك الحد.فقد حصل على منحة، وكوّن فرقة مسرحيّة متنقّلة سمّاها "باراكا". وقد أحيت هذه الفرقة التي كانت تتنقل بين القرى ،المسرح الاسباني القديم المتمثل في أعمال كالديرون،وسرفانتس،ولوبي دي فيغا.في الآن نفسه، كتب لوركا مسرحيّة "يارما"، وهي عن المرأة العقيم .كما كتب أيضا :"بيت بارناردا ألبا"، وهي عن نساء محرومات من الحب.وقد حصلت المسرحيّتان على نجاح كبير في مختلف البلدان التي عرضتا فيها.

وفي العاصمة الارجنتينية بيونس آيرس ،صفّق لها ستّون ألف متفرج!

ثم عاد لوركا الى الشعر .وكان الموضوع الذي وسم كل قصائده (وكأن ذلك تمّ استجابة لهاجس داخلي) ،هو الموت العنيف غير المنفصل عن الحب.إنه "السكيين الذي ينغرس في اللحم غير المتوقّع لذلك.هناك حيث يرتعش الجذر المتحابك للأصوات...”

وفي نهاية الحرب الاهلية ،طُعنت الجمهورية.وقد شعر لوركا كما لو أن سكينا وضعت على رقبته.لم يعد هناك مكان له على أرض الاندلس المجيدة التي دنّستها حوافر خيول جنود فرانكو السوداء.وقد تمّ اعدامه عند الفجر في حقل زيتون،قريبا من القرية التي فيها ولد.وكان ذلك يوم 16 أغسطس-آب 1936.وكان آنذاك في السابعة والثلاثين من عمره.وهكذا سقط وهو في أوج مجده.وجاءت آخر قصيدة كتبها مفعمة بالتحدي:
الأغنية التي لن يكون بإمكاني أن أغنيها أبدا
نامت على شفتيّ
أغنية نجوم حادّة النور
على يوم أبديّ