أواخر القرن التاسع عشر، شهدت فرنسا حدثا بارزا تمثّل في محاكمة ضابط فرنسيّ من أصل يهودي يدعى"دروفوس" بتهمة التجسّس والتآمر على أمن الدولة. وقد اعتبر اميل زولا الذي كان من أشهر الكتاب في تلك الفترة ،تلك المحاكمة "جريمة قضائيّة". لذا سارع باستعمال قلمه، ونفوذه المعنوي للتنديد بها من خلال رسالة شهيرة حملت عنوان:”اني أتهم...”

والحقيقة أنّ زولا لم يكن أوّل مثقّف فرنسيّ يسمح لنفسه بالتدخّل في قضيّة سياسيّة بالغة التعقيد. فخلال القرن الثامن عشر، كان فلاسفة الانوار من أشدّ المناهضين لسلطة الكنيسة والنظام الملكي. وبسبب مواقفهم الجريئة، سجن البعض منهم من أمثال فولتير وديدرو، وصودرت كتاباتهم.وفي القرن التاسع عشر، وتحديدا عام 1851،ثار فيكتور هوغو، شاعر فرنسا الأكبر ضدّ لوي بونابارت الذي كان قد دبّر انقلابا ضدّ الديمقراطيّة ، ثمّ فرّ الى المنفى ليعيش بعيدا عن بلاده قرابة العشرين عاما، خلالها كتب روائعه الشعرية مثل "العقوبات"، و"التأمّلات"، و"أسطورة القرون"، و"البؤساء"، و"عمّال البحر"، و"الرجل الذي يضحك".

وخلال القرن العشرين ،اقتدى عدد من كبار الشعراء والمفكرين والادباء بفلاسفة الأنوار، وياميل زولا، وواجهوا يألسنتهم وأقلامهم السلطات السياسية والقضائية والعسكرية لا في بلادهم وحدها وإنما في العديد من البلدان الاخرى. كما ندّدوا بالحروب الاستعماريّة مناصرين قضايا الحرية والاستقلال. فقد ناهض رومان رولاّن الحرب الكونيّة الأولى من خلال سلسلة من المقالات حملت عنوان: ”فوق الجلبة". وكان من أوائل المثقفين الأوروبيين الذين ساندوا الزعيم الهندي الماتهاما غاندي، مُظهرا اعجابه الشديد بسياسته التي تعتمد "المقاومة السلبيّة".

وكان اندريه مالرو في سنّ العشرين لمّا انطلق الى ما كان يسمّى في ذلك الوقت ب"الهند الصينيّة"دلينتقد السياسة الاستعمارية. وعند عودته إلى باريس، هاجمته القوى اليمينية، وزجّت به في السجن بتهمة سرقة آثار بوذيّة من كمبوديا. ومن وحي رحلاته الى جنوب شرقيّ آسيا كتب مالرو رائعته "الوضع البشري" التي صور فيها ثورة الشيوعيين الصينيين في العشرينات من القرن الماضي.

وكان مالرو من قادة المقاومة الفرنسيّة ضد الاحتلال النازيّ، مناصرا للجنرال ديغول. وقبلهاكان قد حارب في صفوف الجمهوريين خلال الحرب الاهليّة الاسبانيّة التي اندلعت عام 1936.

وقد ازداد اهتمام مالرو بالسياسة بعد أن أصبح يتمتع بشهرة عالمية واسعة في المجال الأدبي. وفي الستينات من القرن الماضي، وكان آنذاك وزيرا للثقافة والاعلام في حكومة الجنرال ديغول، التقى بشخصيات سياسية كبيرة من أمثال الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والزعيم الهندي نهرو، والزعيم الصيني ماوتسي تونغ.وعن لقاءاته بهؤلاء كتب صفحات رائعة في كتابه الذي حمل عنوان:”مذكرات مضادّة".

وبرغم نزعته الفردانيّة، ورفضه لأيّ شكل من أشكال الالتزام السياسي،لم يتردّد أندريه جيد في فضح الجرائم الاستعمارية في كلّ من الكونغو والتشاد وذلك خلال الزيارة التي أدّاها الى هذين البلدين عام 1925. وفي الثلاثينات من القرن الماضي، كان الى جانب مالرو في "لجنة الكتّاب" التي تمّ بعثها بهدف التصدّي للفاشيّة والنازية. وخلافا للكتاب والمثقفين المتعاطفين مع الثورة البلشفية لم يجامل أندريه جيد صديقه مكسيم غوركي الذي كان فد دعاه الى زيارة ما كان يسمّى بالاتحاد السوفيات إذ كتب سلسلة من المقالات اللاذعة ضدّ الاشتراكيّة، منتقدا كبت الحريات العامة والخاصة، وساخرا من "الواقعية الاشتراكية" في الأدب والفن.

وقد تميّزت فترة من بين الحربين العالميتين في فرنسا بظهور كتاب أثار جدلا واسعا بين مختلف التيارات الفكرية وكان بعنوان:”خيانة المثقفين". وهو من تأليف جوليان باندا الذي انتقد بحدّة المثقفين الفرنسيين الذين ينقسمون بحسب رأيه الى قسمين: قسم مع "الامة الفرنسيّة". وهو يعني بذلك المثقفين القوميين الشوفينيين ،وقسم مع "الطيقة"مشيرا بذلك الى المثقفين الذين كانوا متعاطفين مع الثورة البلشفية،ومع الماركسية. ومقولة "الصراع الطبقي". ولا يعيب جوليان باندا على المثقفين الفرنسيين دفاعهم عن القضايا السياسية العادلة مثلما فعل فلاسفة الانوار، أو اميل زولا، وإنما هو يعيب عليهم وضع ذكائهم ومواهبهم في خدمة أحزاب وتيارات سياسية وايديولوجية.

ومثل مالرو، انضمّ البير كامو الى حركة المقاومة الفرنسية ضدّ الاحتلال النازي. وكان على رأس تحرير جريدة "المعركة" لسان الحركة المذكورة. وفي سنوات شبابه، كتب في جريدة "الجي ريبيبليكان" سلسلة من المقالات فيها وصف بدقّة وموضوعيّة حياة البؤس والشقاء التي يعيشها المزارعون في منطقة القبايل الجزائريّة مستعرضا المظالم الرهيبة المسلّطة على هؤلاء من قبل السلطات الاستعماريّة ،والمعمرين الفرنيسيين. غير أن صاحب "أسطورة سيزيف"، و"الانسان المتمرّد"، سوف يرفض في ما بعد امضاء العريضة الشهيرة التي أعدّها عدد كبير من المثقفين الفرنسيين طالبين من خلالها بمنح الجزائر استقلالها، ومحاكمة الجنرالات بسبب الجرائم التي ارتكبوها خلال حرب التحرير الجزائريّة التي آندلعت عام 1954. وقد فسّر كامو رفضه ذاك قائلا بإنه لو خيّر بين العدالة وأمه لآختار أمه!

وكانت مسيرة جان بول سارتر سلسلة من المعارك الفكريّة والسياسيّة العنيفة في أغلبها. وقد بدأ حياته وكأنه غير مبال بالسياسة وهمومها ومشاكلها.وفي روايته "الغثيان" التي أصدرها في الثلاثينات من القرن الماضي، هو يحملنا الى عالم يتّسم بالخواء والسوداويّة من خلال شخص ينظر الى العالم الخارجي باحتقار وازدراء. كن بعد الحرب العالميّة الثانية، رمى سارتر بنفسه في قلب المعارك الفكريّة والسياسيّة في فرنسا وفي العالم بأسره، متخليّا عن سلبيّته التي وَسَمتْ مسيرته في مرحلة الشباب. وعبر مجلّة "الأزمنة الحديثة" التي أسسّها، راح يروّج لأفكاره مدافعا عن قضايا الحرية والعدالة،مناصرا الشعوب المضطهدة والمستعمرة، مادحا الاشتراكيّة، مشهّرا بالعنصريّة البيضاء وممجدا الثورات المسلّحة خصوصا الثورة الفيتناميّة والثورة الكوبيّة.

وكان سارتر من أوائل الممضين على العريضة المطالبة باستقلال الجزائر. وبسببها قطع علاقته مع البير كامو وشنّ عليه معركة قاسية معتبرا ايّاه "مثقفا خارج التاريخ". وخلال الثورة الطّلابيّة التي اندلعت في ربيع عام 1968، شارك سارتر ورفيقة حياته سيمون دو بوفوار في المسيرات والتظاهرات الطلاّبيّة، مردّدا نفس الشعارات التي كانوا يردّدونها. وكانت الشرطة الفرنسيّة تهمّ باعتقاله بتهمة "اثارة الشغب"، غير أن الجنرال ديغول منعها من ذلك قائلا: ”لا يجوز اعتقال فولتير!”. ولم يكتف سارتر بمساندة الطلبة الثائرين، بل ساند أيضا التيّارت اليساريّة المتطرّفة، والحركات الماويّة(نسبة الى الزعيم الصيني ماوتسي تونغ) وكان يوزّع جريدة "قضيّة الشعب" الناطقة باسمها.وعلى برميل وقف ليحرّض العمال على الثورة.

وفي السنوات الاخيرة من حياته،ضعف بصره فأخذ يستعين يشاب من أصل يهودي يدعى بني ليفي للتجول في الشوارع،والذهاب الى المقاهي والمطاعم.

وكان ذلك الشاب قد تحمّس في سنوات شبابه الأولى الى أفكار الزعيم البلشفي ليون تروتسكي الذي آ اغتيل في المكسيك عام 1940 من قبل مخابرات ستالين.لكن في ما بعد، ارتدّ عن ذلك ليصبح قبلانيّا متطرفا ،مطلقا لحيته على طريقة رجال الدين اليهود، ومتردّدا على القدس لقراءة التوراة أمام حائط المبكى.ومع سارتر كان يخوض نقاشات حول مسائل تتصل بالديانة اليهوديّة، وبتاريخ اليهود ،وملوك اسرائيل القدماء. ويبدو أن صاحب"الوجود والعدم" أعجب بما كان يطرحه صديقه الشاب من أفكار ،لذا بات ملازما له، مثيرا بسلوكه الغريب ذاك غضب واستياء رفيقة حياته سيمون دو بوفوار. وأكثر من مرة تدخلت بحزم لتخليصه من هيمنة الشاب اليهودي، غير انها لم تفلح في ذلك.وقد ظلّ هذا الأمر قائما حتى وفاة سارتر عام 1980.

بآستثناء الجزائر لم تحظى القضايا العربيّة باهتمام كبير من قبل المثقفين الفرنسيّين.فخلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1955، فضّل جلّهم الصّمت. أو هم اكتفوا بالادلاء بتصريحات وتعليقات فضفاضة. وبعد حرب 1967، زار سارتر وسيمون دو بوفوار مصر. وفي القاهرة التقيا بكبار المثقفين المصريين، وتحدثا طويلا مع توفيق الحكيم. بعدها زارا اسرائيل. وعند عودتهما الى باريس عبّرا عن مساندتهما المطلقة للدولة العبريّة، آملين في انهاء الصراع العربي-الاسرائيلي بالطرق السلميّة.

وحده جان جينيه سبح ضدّ التيّار. ويبدو أنه عشق العالم العربي منذ سنوات الشباب عندما كان جنديّا في الجيش الفرنسيّ المرابط في بلاد الشام. وخلال الستينات من القرن الماضي، شرع يتردّد على الاردن وعلى المخيّمات الفلسطينيّة حيث عاين عن كثب حجم الكارثة التي أصابت شعبا طرد من أرضه بقوّة السلاح.

وسوف تكون روايته الاخيرة "الأسير العاشق" التي صدرت بعد وفاته عام 1986، ثمرة معايشته الطويلة للفلسطينيين في الملاجئ، وفي ميادين القتال. وعندما تمّ كشف مجزرة "صبرا وشاتيلا" في خريف عام 1982، والتي كان الجيش الاسرائيلي ضالعا فيها، انطلق جان جينيه الى بيروت ليكتب نصّا بديعا كان من أفضل الشهادات عن تلك الجريمة البشعة، وعن مأساة الشعب الفلسطيني.