سويسرا الشرق، هكذا كان يلقّب لبنان خلال عصره الذهبي في القرن الماضي، ولكن كل ذلك ولّى، خسر لبنان كل ألقاب الشرف وبات هو والكثير من أبنائه يحتضرون... من قال إن الموت فقط هو في موت الجسد؟ الموت الحقيقي عندما يموت كل شيء في الانسان فيما نبضه على قيد الحياة

طبعاً هناك من يعيش حالة نكران ولا تعنيه الأزمة البتة، ومن الشواهد نائب ميسور ظهر على الشاشة يقول إن لبنان "رخيص" للسوّاح إذ يمكن لسائح أن يحصل على مأدبة غداء مقابل 20 دولاراً... هو مبلغ زهيد بالنسبة لنائب شريك في شركة في أميركا، ولكنه باهض بالنسبة للبناني يقبض الحد الأدنى من الأجور... لمواطن أصبحت هذه الدولارات القليلة هي ثلث معاشه الشهري ... والحبل على الجرار في بلد هّرب سياسيّوه مليارات الدولارات إلى الخارج ويخطون الآن صيغة تحرّرهم والمصارف من الأزمة المالية على حساب المودعين. تنصّلوا من كل واجباتهم ومسؤولياتهم وتركوا المواطنين يتخبطون من ميل في تحمّل تبعات الأزمة المالية، ومن ميل آخر في الارتفاع الجنوني بأسعار المنتجات الغذائية، ففوق طين الأزمة بلّة الاقتصاد الريعي.

لطالما انتُقدت الحكومات المتعاقبة على الفساد والصفقات ونهب الأموال العامة؛ أما هذه الحكومة، والتي هي وليدة المنظومة نفسها ولكن بأوجه مستعارة، فكارثتها أنها أشبه بطالب طب مبتدىء أُوكلت إليه مهمة إنقاذ مريض سرطان نهشه المرض الخبيث... وكيف يمكن لمبتدىء أن يُنقذ حالة مستعصية؟ لا وهذا المبتدىء مغرور، ربما لا يعرف كيف يُمسك المشرط ولكن لا يعترف بعجزه ويصّر على تولي المهمة... يشمخ عالياً رافضاً الاستسلام والمريض يتخبط ويتلوى ويُحتضر!

الكل بات يعرف أن هذه الحكومة مأمورة لا آمرة، تطيع ولي نعمتها الذي أوصلها إلى الحكم من العدم لتمرير الوقت، ولا أحد عاقل يُحمّلها كل المسؤولية، فهي استلمت بلداً ينزف ولكن بدّل أن تضمّد جراحه بعثرت دماءه بالجهل مرة والمكابرة مرة أخرى... والنتيجة فوضى وسوق سوداء وتهريب مواد غذائية وأزمة اقتصادية خانقة.

أما على الخط الانساني، تحوّل الشعب المتميّز بإبداعه إلى شعب خائف من انقطاع القمح والطحين والمازوت... شعب خائف أن يجوع في كنف العتمة!

الشعب الذي يضّج بالحياة بات القلق سيّد أفكاره... يهرع إلى متاجر المواد الغذائية، ومن دون وعي يجمع ما تيسّر له من مؤونة يسّد فيها رمقه في أيام أصعب مرتقبة... ومع كل زيارة يدفع الأضعاف بالأصناف نفسها، ويعود مرة بعد مرة مخدراً بالخوف والقلق من المستقبل، فالأوضاع المتردية تضرب على أوتار غريزة بقائه... وهناك من يبدّع في استغلالها واستغلاله!

وهناك من نفض عنه هول الجوع لأنه لا يملك ما يحصّنه ضده، فهناك الآلاف ممن لا يملكون المال الكافي ليجمعوا المؤن... أو انقطعت أرزاقهم وباتوا بلا ايراد يُدخلهم في سباق المنافسة على البضائع!

وهكذا أصبح الشعب الذي كان ينبض دمه ثورة على الفساد في 17 تشرين الفائت، يختنق مفرّقاً، غضباً وغبناً؛ فرقوه بالسياسة وكسروه بلقمة عيشه وحوّلوه إلى شعب مخدّر راضخ يتقبّل ذبحه كأمر واقع... شعب غدا أقصى طموحه ألا يجوع هو وأولاده!

أما السياسيون فمنهم من يعيش حالة نكران ولا يزال يقاتل على السلطة والمحاصصة، ومنهم من يخرج مهوّلاً من البلايا التي تقف بالمرصاد لهذا البلد... وكلهم كربّان سفينة مستهتر جلّ اهتمامه كيف يأخذ ما تيسر له مما تبقى على متن السفينة ويهرب قبل أن ترتطم بجبل الجليد وتتحطم... ولا يكلّف نفسه عناء تغيير الدفة وتجنّب الموت المحتّم... وكأنها أملاك غريمه ويريد أن ينتقم منه بها!

يقال إن المواقف الجبارة تحتاج إلى رجال ومن يقودون هذا البلد صِبية رُعْن طماعون بلا ضمير، تنطبق عليهم كل الصفات... إلا الرجولة... وبدّل أن يُجلدوا... ما زالوا هم الجلادين!