معضلة الديمقراطية المعنية هنا تشير إلى المرحلة التي وصلت إليها الدول العربية، حيث تتزايد المطالب الشعبية بتغيير النـخب الحاكمة والتداول السلمي للسلطة والإصلاح، وتوسيع مساحة المشاركة الشعبية وغير ذلك من مفردات التحول إلى نظام ديمقراطي تعددي تلعب فيه صناديق الانتخابات الدور الرئيسي في انتقال السلطة من نخبة إلى أخرى، ومن جيل إلى آخر.
وحين تـطالب الجماهير بشيء، فهذا يعنى ببساطة أنه غير موجود، حتى لو توافرت بعض المفردات الشكلية السياسية التي تقول إنه موجود.

فالمسألة ليست شعارات أو حالة تعبئة جماهيرية أو نوعا من الوهم الخادع، وإنما منهج حياة تفتقده المجتمعات العربية وتحلم بوجوده وتشعر بوطأة وخطورة غيابه، لا سيما في ظل الشعارات والهجمة الشرسة والمتزايدة من قبل الولايات المتحدة.

يتساءل الكثيرون لماذا غابت الديمقراطية عن عالمنا العربي، وحلت وانتشرت وتجذرت في بلدان أخرى كدول أوروبا الشرقية وبعض دول أفريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية منذ الربع الأخير من القرن الماضي؟ يمكن لأي مواطن عربي لديه اهتمام وإطلاع بما يجري في عالمنا العربي أن يضع يديه على مجموعة من الأسباب والعوامل البنيوية والمعنوية لهذا الغياب، وهي باختصار كالآتي:

أولا: طبيعة الثقافة السياسية السائدة في غالبية البلدان العربية، ونعني بها مجموعة القيم السائدة التي تتعلق بالحياة السياسية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي قـيم قائمة على الطاعة العمياء لأولي الأمر دون مراجعة أو نقد، وتمجيد الزعيم والقائد واعتباره زعيما تاريخيا بيده مصير الأمة وقدرها، ولا يجوز النظر إليه إلا كخيار يتحكم به القدر مجيئا وذهابا.

ثانيا: حين تشيع ثقافة سياسية تمجد الزعيم وتنزع عن الجماهير قدرتها على الفعل والعمل، يـصبح العقد الاجتماعي السائد بين الحاكم والشعب قائما على نوع من التسلط والإكراه، وهما بندان يغيب معهما أي علاقة سوية بين الحاكم والمحكوم. كما يصبح المصير كله بيد نخبة محدودة العدد ولكنها مهيمنة على مفردات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مقابل غالبية جماهيرية مغيبة ولا تأثير لها.

ثالثا: إن الحرس القديم متجذر المصالح يدرك أن ذهاب الغطاء الشمولي عنه سوف يكشف كل عوراته وموبقاته، وكل ما خلفه للوطن من تراجع وتدهور على كل الأصعدة. ومن هنا، فإن معركته الرئيسية والتاريخية هي ضد التغيير والتطوير. وحين يضطر لرفع شعارات ديمقراطية، يعرف تماما كيف يجعلها مجرد شعارات لا أكثر ولا أقل.

رابعا: ما تزال مجتمعاتنا العربية قبلية وعشائرية وطائفية، وهذا ما اظهرته الانتخابات التي جرت قبل الثورات العربية وبعدها، فالشعوب ما زالت تصوت في الانتخابات على أسس مذهبية وطائفية وقبلية وعشائرية وجهوية ومناطقية. ومعظم الأنظمة تحكم منذ عقود على الطريقة الاستعمارية الشهيرة "فرق تسد"، وكما كان الاستعمار يعزز التناقضات العرقية والطائفية والقبلية بين سكان البلدان التي كان يستعمرها كي يبقي أهلها منشغلين بخلافاتهم وصراعاتهم، حتى يسهل عليه التحكم بهم وضربهم بعضهم ببعض كلما اقتضت الحاجة فيما لو فكروا بالثورة عليه، فإن الأنظمة التي تزعم انها وطنية حكمت بعد خروج الاستعمار من بلادها بالطريقة الاستعمارية نفسها او ربما أكثر سوءا منها.

جاءت الديمقراطية في الغرب نتيجة تطور تاريخي طويل نسجته صراعات اقتصادية واجتماعية وسياسية وآيديولوجية، تعارضت فيها الطبقة الإقطاعية والملكية المطلقة من جهة، والبرجوازية ومن وراءها الشعب بأجمعه من الجهة الأخرى خلال المرحلة الأولى، ثم السلطة البرجوازية من جهة والطبقة العاملة المنظمة من الجهة الأخرى في المرحلة التالية بعد انتصار البرجوازية على الإقطاع، وحدثت هذه الصراعات في ظروف لم يكن هناك عدو خارجي في الميدان السياسي والعسكري ولا حتى في الميدان الاقتصادي.

إن من حق أبناء الأمة العربية أن يعيشوا بحرية وكرامة، إن من حقهم أن يُعطوا الفرصة ليلحقوا بركب الشعوب الأخرى في الانشغال بشؤون العلم والتقدم والتطور. إن من حق هذه الأمة أن تلتفت إلى بناء نفسها ومواجهة الأخطار الخارجية التي تتهدد أبناءها وحضارتها وثرواتها ومستقبلها. إن شعوبنا العربية لا تقل ثقافة ولا تعليما، ولا تنقصها الإمكانيات المادية والثروات الطبيعية عن بقية دول العالم، بل إن الوطن العربي هو نبع المواد الخام التي تدير مصانع الحضارة الغربية، ولذلك فليس من العدل والمنطق أن نبقى نحن أبناء العرب والعروبة محرومين من الحرية والديمقراطية.