" واعلم أن انقباضك عن الناس يكسبك العداوة، وأن انبساطك اليهم يكسبك صديق السوء، وسوء الأصدقاء أضر من بغض الأعداء" - عبد الله ابن المقفع

الصداقة حاجة شخصية لا يمكن للمرء أن يعيش في المجتمع دون البحث عن تحقيقها وفي نفس الوقت هي فضيلة أخلاقية تتطلب الالتزام بجملة من القيم على غرار الاخلاص والوفاء والتضحية والصدق والعفو. غير أن التفكير في وجودها وسط الذات والغيرية يثير بعض التساؤلات المستفزة ويطرح تحديات عسيرة سواء من جهة الذات التي بقيت مجرد كتاب مفتوح يدون فيه كل جيل جديد ما شاء من أمنيات وتطلعات أو من جهة الغيرية التي ما لبثت أن اختفت بعد أن تجلت واختلطت بالآخرية والغرابة والخارجية البعيدة.

لقد طرح سؤال الهوية الملغوم سؤال الحضور في العالم ضمن علاقة اشكالية بين الأنا والآخر تتردد بين الصداقة والعداوة وضمن تجربة معيشة تحاول فيها الانية ترميم الروابط التي تجمعها بالغيرية وتنتقل من التخاصم الى التعارف والتعايش وتستهدف الحياة الجيدة وتحقق التواصل بين الذوات وفضيلة الاجتماعية.

من شروط الصداقة الحقيقية هي الايثار والصراحة والاحالة الى المنفعة وهو ما يعني التخلي عن حب الذات وما يترب عنها من ارضاء رغبة التملك واللاعدالة مع الآخر والمعاملة بالمثل وجلب المضرة له والاعتداء على الاختلاف والتعددية والتنوع والكثرة والبحث عن المماثل والمطابق والشبيه والجوهرانية.

المثير للاستغراب أن الصديق الوفي نادر وأن الصداقة غير مستوفية بالضرورة وتظل مجرد مطلب وغاية وتم استهلاكها زمن العولمة المتوحشة وكوجيطو البضاعة والربح السريع والعلاقات المهترئة وتحتاج دوما الى اعادة بناء وتحيين مستمر وتشكيل متواصل للوسائط مع ضجيج المدن وصخب الشارع.

اذا كان جان بول سارتر يرى في الآخرين الجحيم الملتهب وفي الآخر الصخرة التي تتحطم عليها حرية الذات ويفسر ذلك بالنظرة التي تختزلها الى مجرد موضوع وإذا كان برجييه يجد الجنة في العزلة عن الناس ويعتبر الوجود مع الأغيار هو الشر بعينه فإن بول ريكور يتحدث عن عين الذات غيرا والغيرية الكامنة في الذاتية واشترط تحقق الانية قيام جدلية تكاملية بين الأنا والأنا يتم فيها تعديل صورة الذات عند الغير وتعديل صورة الغير عند الذات بما يحقق التعارف العادل بينهما والاعتراف المتبادل بين الهويات.

من المفروض أن تكون الصداقة الحقيقية هي التي تنعقد مع المغاير بصورة جذرية ومع المختلف بالتمام ولا تتوقف على الشخص الأفضل وفق المعايير الثقافية للهوية الاجتماعية التي تتقاسمها الذات مع الشركاء ولذلك يجب أن تتجاوز الأقوال المنطوقة والتصورات النظرية نحو الأفعال السديدة والمبادرات المسؤولة.

فأين الحكمة في اقصاء الغيرية واتخاذ مسافة ثقافية من الآخر وتأبيد الفوارق الاجتماعية والهوة الرقمية معه؟ أي تقدم تاريخي للحضارة الانسانية في ظل بقاء مجتمعات عديدة في حالة ركود وتأخر وتخلف؟

كاتب فلسفي