هو جيلبرت كايث شسترتون. ولد في لندن يوم 29 مايو-أيّار1877، وفيها توفّي يوم 4حزيران-يونيو 1936، وهي نفس السّنة التي اندلعت فيها الحرب الأهليّة الإسبانيّة، وفيها قتل فريديريكو غارسيا لوركا، وتوفّي الشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بسوّا. و شسترتون صحافيّ لامع اشتهر بالسّخرية اللاّذعة والدّعابة السّوداء ، والقدرة الفائقة على إتقان فنّ الجدل. لذا كان خصومه وأصدقاؤه من الكتاب والمفكّرين من أمثال برتراند راسل ،وويلز ،وجورج بارنارد شو، وكلارنس داروو، يهابونه ويخشونه أشدّ الخشية. وكان أيضا شاعرا فذاّ، وكاتبا مرموقا، ومفكّرا سياسيّا نافذ البصيرة في مختلف القضايا، خصوصا منها تلك المتّصلة بالعلاقة بين الدّين والسياسة. وقد لقّب شسترتون ب"أمير المفارقات" لجمعه بين المتناقضات. به تأثر العديد من كبار الكتاب في القرن العشرين. وكان بورخيس يصفه ب "المعلّم الكبير". عنه كتب يقول :”أسلوب شسترتون رشيق، ساخر، نزق، ودائما مدافع عن الخيال"

كما اشتهر شسترتون بمواقف، وبأقوال لا تزال تجري على ألسنة الناس إلى هذه السّاعة. من بين هذه الأقوال :”اللّصوص يحترمون الملكيّة. وهم يريدون فقط أن تكون هذه الملكيّة، بعد أن تصبح لهم، أكثر حماية واحتراما". ومتحدّثا عن المشهد السياسي في بريطانيا، كتب يقول :”العالم منقسم بين محافظين وتقدّمييّن. ودور التّقدّميّين هو مواصلة ارتكاب الأخطاء. وأمّا دور المحافظين فيتجلّى في تجنّب عدم إصلاح تلك الأخطاء". ومعرّفا الإنسان السّليم ،كتب يقول :”الإنسان السّليم هو الذي له قلب تراجيديّ ،و عقل كوميدي". كما كتب يقول :”كلّما تقدّم الزّمن ،ازداد النّاس تأخّرا"، و"أبدا لم يضع النّسر الكثير من وقته إلاّ وهو يستمع إلى الغراب"، و"الذي لا إشراقة في وجهه ليس بمقدوره أن يصير نجمة"...

وكان شسترتون فارع القامة يكاد طوله يبلغ المترين. وكان يزن 130 كيلوغراما. وذات مرّة التفت إلى صديقه اللّدود جورج برنارد شو الجالس بجانبه، والذي كان نحيلا ،وقال له :”الذي يراك يمكن أن يعتقد أن هناك مجاعة في بريطانيا". ضاحكا ردّ عليه شو قائلا :”والذي يراك يدرك أنك أنت السّبب في هذه المجاعة". وذات مرّة وصف جورج برنارد شسترتون قائلا بأنه “جبل بشري، هائل الحجم جسديّا وثقافيّا إلى ما بعد الحدود القصوى للتّصوّر. وهو يكبر أكثر حين يعاين أن الناس ينظرون إليه”. وكان شسترتون يتجوّل في لندن، ويذهب إلى الحفلات، وإلى المسارح ، وإلى النّوادي بقبعته وعصاه التي لها شكل سيف، والسيجارة التي لا تكاد تفارق شفتيه. منه استوحى الكاتب جون ديكنسون كار شخصيّة المفتّش غيدون فيل في رواية بوليسيّة اشتهرت كثيرا في زمنه.

وفي كتاب صدر في ربيع هذا العام (2012) تحت عنوان :”ستوديو عدم المنفعة "، خصّص الكاتب والمفكّر البلجيكي سيمون لايس دراسة بديعة لكايت شسترتون، تناول فيها بالتحليل شخصيّته الفريدة ،وعالمه الأدبيّ .
وقد ولد سيمون لايس ،واسمه الحقيقي، بيار ريكمانس،في بروكسيل عام 1935. وبعد أن أكمل دراسته في تاريخ الفن، انطلق إلى الصّين التي كان مفتونا بها منذ سنوات الطفولة لينشغل بحضارتها القديمة وبفنونها وآدابها، وعنها أصدر العديد من الكتب التي باتت راهنا مراجع أساسيّة في هذا المجال. وفي مقدّمة كتابه "ستوديو عدم المنفعة" الذي احتوى على العديد من الدراسات المتّصلة بمجالات مختلفة، ،روى أنه ، وهو طالب "فقير وجاهل"، أمضى سنتين في غرفة حقيرة في أحد أحياء هونغ كونغ الفقيرة، تقاسمها معه ثلاثة من أصدقائه الطلبة. على جدار تلك الغرفة ،كان مكتوبا بأحرف غليظة :”ستوديو عدم المنفعة". والعبارة تحيل الى كتاب صينيّ قديم فيه جاء أن "تنّين الرّبيع عديم المنفعة". ويشير سيمون لايس إلى أنه اختار هذه العبارة لأنها تذكره بتلك السنوات "السّعيدة والمفعمة بالاكتشافات"، حيث كانت "الدّراسة والحياة مختلطان، ولهما فوائد جسيمة".

وفي دراسته، يرى سيمون لايس أنّ شسترتون كان شاعرا بالأساس انطلاقا من أن الشعر ليس أوزانا وقوافي، وإنّما هو "شيء آخر أشدّ عمقا وجوهريّة”. هو “المسك بالواقع”، وهو يسمّي أشياء العالم المرئيّ بأسمائها. من هنا يمكن القول أنّ أعظم القصائد التي كتبها شسترتون توجد في نصّه الذي حمل عنوان :"روبنسون كريزويه"، والذي فيه استعرض قائمة بأسماء الأدوات التي أتاحت لكريزويه النّجاة من الغرق. وهي على النّحو التّالي: بندقيّتان، فأس، ثلاثة سيوف، منشار، ثلاث قطع من الجبن الهولّندي، وخمس قطع من لحم الماعز الجافّ. بتقديمه لقائمة الأدوات هذه، يعرّف لنا شسترتون بحسب سيمون لايس الشّعر بأنه يحدد ّ"علاقتنا مع العالم الخارجي، وهو خطّ الحماية الذي عليه يتوقّف بقاؤنا على قيد الحياة"، بل أنه في ظروف معيّنة "آخر معقل لصحّتنا العقليّة".

ويشير سيون لايس بأنه من الخطأ الإعتقاد بأنّ شسترتون كان غائب الذّهن عن معضلات عصره، مظهرا عدم الإهتمام بها ،وغير مدرك للجوانب المعتمة في حياة الناس من حوله، مفضّلا الانصراف إلى العبث، واللّهو الجميل، ضاحكا زاهيا في المحافل، وكأنه غير معنيّ بالزّوابع والعواصف التي تهزّ العالم ، والكوارث التي تتهدّد الإنسانيّة جمعاء. والحقيقة أن شسترتون كان واعيا بكلّ هذا، وعارفا بكلّ المخاطر، وبكل الفواجع. لكنه كان مدركا أيضا أنه عاجز عن مواجهة ما يحدث. لذا كان يلجأ إلى الضحك والسّخرية لتحمّل المرارة التي تسكنه، والتّخفيف من حدّة الألم الذي يعصره. وهذا ما لمسه كافكا بعد أن قرأ روايته التي حملت عنوان :”الرجل الذي يدعى الخميس". ولعلّ ذلك يعود إلى أن هذه الرّواية التي تجلّت فيها فنّيات شسترتون العالية، تخلّلتها كوابيس تشبه كوابيس صاحب "المحاكمة".
ويروي سيمون لايس أن شسترتون وجد نفسه في أوّل شبابه، وهو يعيش حياته حالما سعيدا، ضحيّة أوّل تجربة مع الشّرّ. الشرّ لا كتهديد آت من الخارج، وإنّما كواقع روحيّ يسكن في قلب وعيه، وفي أعماق نفسه. ومنذئذ، دأب شسترتون على استكشاف ذاته ، وعلى التمعّن في حياته ليستعرض في ما بعد خلاصة تجربته الرّوحيّة تلك في أثره الرّائع عن توماس الأكويني. ومُجْمل ما جاء في خلاصة تلك التّجربة أنّ المسيحيّة عكست الاعتقاد الأفلاطوني القديم الذي يقول بإنّ العالم الماديّ هو السّيّئ. أمّا العالم الرّوحاني فصالح وطيّب. والواقع أن العكس هو الصّحيح. فاللّه حين خلق العالم، نظر ليعاين أن كلّ شيء خلقه حسن وصالح ومفيد. لذلك يمكن القول أنه "ليس هناك أشياء سيّئة، وإنّما يوجد فقط استعمال سيّئ لتلك الأشياء. أو الأحرى بنا أن نقول بإنه ليس هناك أشياء سيّئة، وإنّما هناك أفكار سيّئة، ونوايا سيّئة بالخصوص".

ويشير سيون لايس أن شاسترتون عاش تجربته الرّوحيّة تلك بعمق بالغ حتى أنه لامس الجنون. ولم يجد خلاصا من ذلك إلاّ بفضل الشّعر. ومن هذا الجانب هو يقترب كثيرا من المفكّرين الصّينييّن القدماء الذين عاشوا قبله بآلاف السّنين ،أي معلّمو "الزّان" الذين كانوا يعتمدون على الفنون وعلى المفارقات والألغاز لتبليغ أفكارهم للآخرين. وهي أساليب تُعلّم الإنسان الطرق التي عليه أن يتوخّاها في علاقته مع الواقع، والتّمسّك به تماما مثلما فعل روبنسون كريزويه الذي حافظ على حياته لاحتفاظه بالأدوات المذكورة.

ويصف سيون لايس شسترتون بأنه "شاعر يرقص بألف قدم" مثل بطل إحدى رواياته الذي يدعى "سانداي"(الأحد)، وهو عملاق مشاغب، وحالم، ومراوغ. ثمّ يضيف لايس قائلا :”عندما نقرأ شسترتون اليوم، فإنّنا نجد أنفسنا دائما مذهولين أمام صحّة أفكاره، وآرائه الواردة في العديد من تحاليله. كما نقف على القيمة العالية لتنبّؤاته بشأن العديد من الأحداث والتّحذيرات، رغم أنها تعود إلى مائة عام خلت. ولا تزال كتاباته تعكس قضايا حاضرنا عكس كتابات المعاصرين له.