" شيء مما يخطر في فكري وأسلكه عملياً وأنا قيد الإقامة الطوعية في البيت بسبب الكورونا القاسية الحبس "
من العادات التي أصبحت صفاتٍ ملازمة لي منذ صباي وفتوتي حتى شيخوختي الحالية هي استثمار الوقت فيما ينفع ويجدي، فليس من عادتي أن أهدر وقتي في عبثٍ لا مبرر له، إذ لابدّ أن اشغل نفسي مع ما يحيط بي من أشياء كثيرة لاتحصى وأعبئ الفراغ بما هو نافع وممتع ولا أحب ان أؤجل عمل اليوم الى غد او بعد غد -- كما يقول المثل-- فتأجيل المهمات شطبْتهُ من معجم حياتي منذ صغر سني مثلما لا أحب ان اسبق العمل اذا لم يحن أوان ترتيبهُ بعد، اما الكسل فهو عدوي اللدود ولو كان الأمر بيدي لحذفته من لغات العالم كلها اسماً وفعلاً ولا أتذرع بحرارة الجو او برودته او اعتداله لتسوية أمر معين أو تأجيله بعد حينٍ خاصةً في طلب العلم والتوق الى المعرفة والاستزادة منها؛ فأنا طوع أمر ما يقول هذان البيتان:
إذا كان يُضنيك حرّ المصيفِ ---- وكرب الخريف وبرد الشتا
ويُلهـيك حسـن زمـان الربيع ---- فأخـذُك للعـلم قـل لي متى؟

هو ذا شعاري مذ عرفت قيمة العمل سواء كان عقليا أم عضلياً فتراني أكيّف نفسي فيما ينفعني وينفع الناس ولا يهم العمر طال أو قصر أو جرفتنا الكورونا لمقابرها ، فلنعش طالما أحببنا الحياة بكل مباهجها ورضينا بما قسم الله لنا من أمدٍ نقضي فيه هذه الدنيا على ما فيها من خصبٍ وجدب.

نعم قد نرى فيها الكثير من المغاليق والأسوار لكننا لابد ان نتسلقها وننعم بثمار هذا البستان الوارف الظلال والوافر بالخير والبركات وبأيدينا وبعقولنا نفتح أبواب الحياة من خلال اختيار المفاتيح الصحيحة لفك مغاليقها .

نحن لا نبقى ابدا في هذه الدنيا؛ لذا على المرء ان يضع أقدامه في ارض لينة الثرى ويُحدث أثَرا كي يقال ان هذا المرء قد ترك شيئا نافعا خلال مروره الخاطف في طريق الحياة السالك والوعر معا.

كثيرا ما يأخذ مني التعب مأخذا بسبب الإجهاد والضنك والهوان لرجلٍ كبير السنّ عركتْه الحياة وعركَها مثلي فأسترخي على مقعدي او أتمدد مضطجعاً على سريري غير نائم، فلا يهدأ لي بال حتى اسمع شيئا من موسيقى او مغنىً آسر أروي ظمأ روحي العطشى للفن الهادف الرائق والعزف الممتع الشيّق.

وإذا مللتُ الكتاب وضجرَ من قبضتَي يدي وضعفتْ عيناي من طول القراءة أطرحه جانبا بعض الوقت ولا أملّ من الاستماع الى لحن راقٍ او ترتيل يشدّ ما تراخى في داخلي ولا أعبأ بكلام الآخرين ولومهم الدائم – وبالأخص مَن أعيش معهم -- حين أسمع منهم كلمة : ألا تهدأ.

ولو صفا ذهني وهدأت سَورة الحزن في داخلي أنزوي في غرفتي وأبدأ بالتفكير والتأمل في كل شيء يتراءى أمامي او يشغل بالي وكثيرا ما ألوذ بالقرآن الكريم وأغوص في بلاغته وسبكه اللغوي المذهل وإعجازه الأدبي الذي لا نظير له في عربيتنا وأتدبّر آياته وأنهل من معينه خوفا من ان يتحجّر قلبي وطمعا في زيادة ثروتي اللغوية فهو مائي الدافق وزادي الدائم وزوادتي في سفري المستمر في رحلات العقل حين تتلاطم الأفكار في رأسي.

أحزن كثيرا اذا مرّ يومي دون ان استثمره بالإيجاب واحصل على مبتغاي كأنْ اظفر بمعلومة جديدة لأضيفها الى رصيد معلوماتي وأنجز شيئا مهما كان صغيرا قليل الأهمية؛ فالأشياء كما نراها تبدأ صغيرة ثم تكبر وتزداد أهميتها سنة بعد أخرى؛ فالسيد توماس أديسون بدأ باختراع المصباح الكهربائي الصغير وبعدها توالت الاختراعات في مجال الطاقة الكهربائية بأجهزة لا تحصى وكان هذا المصباح خافت الضوء فتحا عظيما لثورة الإنسان ضد الجهل والتخلّف والظلام لأنه أضاء العالم نورا وتنويرا فكريا ويحضرني بهذا الصدد قول شاعر عربي ربط العلم بالعمل والكسب حين قال:
إذا مرّ بي يومٌ ولم اتّخذ يداً-- ولم استفدْ علما فما ذاك من عمري
فما أجمل أن يقترن العلم بالعمل والكسب الحلال ولابدّ للمرء ان يضع لبنة مهما صغرت في بناء الحياة الفوقي والتحتي لأجل إعمارها بما يرضي الإله القدير ونوازع الضمير لأشقائنا ونظرائنا من البشر أينما عاشوا وحيثما وجدوا لأننا نبني أنفسنا لكي نسهم في إضافة شيء نافع للحياة مهما كان ضئيلا، فإذا كان في يد أحدكم فسيلة فليزرعها او لبنة فليرصّها مع مثيلاتها حتى لو كنتَ في النزع الأخير من الحياة ولا تمتثل لما قال جدّنا الشاعر أبو فراس الحمداني : إذا متُّ ضمآناً فلا نزل القطْر كي لا تكون من الغاوين وأشباههم.

[email protected]