بعد مرور أربعين يوما على رحيله، أطلق اسم الشاذلي القليبي على مدينة الثقافة التونسية تقديرا لدوره الريادي في بلورة وترسيخ قيم الثقافة الوطنية في تونس في ظل دولة الاستقلال.
وشخصيا لم أتعرّفْ على الراحل الكبير الشاذلي القليبي مُباشرة، ولم يَسْمَحْ لي الزمن والظروف أن أراه حتى عن قرب...لكنه كان حاضرا بقوة في حياتي منذ الستينات من القرن الماضي، وحتى وفاته في الثالث عشر من شهر ماي من العام الحالي...
وحضوره كان نافعا ومفيدا لي، ولأبناء جيلي الذين دخلوا إلى المدارس بعد حصول تونس على استقلالها، مُستفيدين من تعميم التعليم، ومن بناء المدارس في كل الأماكن، بما في ذلك القرى النائية التي تكاد تكون مقطوعة عن العالم، والتي كان المعلمون المكلفون بالتدريس فيها يقطعون المسافات الطويلة للوصول إليها راجلين، أو على ظهور الأحمرة من دون ـن يتذمروا، أو يشتكوا إذ أنهم كانوا يشعرون بأنهم مُحَمّلين بمهمّة نبيلة تتمثل في رفع الأمية، ومُحاربة الجهل ولتخلف لبناء تونس الجديدة...

والحضور الأول للراحل الكبير تمثل في الحادثة التالية:
في عشية من عشايا ربيع عام1962 ، كنت مع فتيان دوّار أولاد سعيدان عائدا من مدرسة العلا . وفي الطريق الفاصل بين العلا وحفوز رأينا سيارة خضراء مكتوب عليها: وزارة الشؤون الثقافية... منها يتعالى عبر مُكَبّر الصوت نداء يدعو الجميع لمشاهدة فيلم مصري بعنوان :"صراع في الوادي" للمخرج يوسف شاهين، وبطولة عمر الشريف، وفاتن حمامة، وزكي رستم، وفريد شوقي...

وبما أن السينما كانت مجهولة عندنا، فإن ذلك النداء هزّ مشاعرنا وعواطفنا ، وشَحَذَ فضولنا. لذلك تناولنا لقمة العشاء على عجل. وحالما هبط الظلام، قطعنا مسافة الثلاثة كيلومترات الفاصلة بين الدوّار والعلا ونحن نركض مطلقين أصوات الفرحة والابتهاج، وبنا رغبة محمومة لمشاهدة أول فيلم في حياتنا...
على جدار بيت محسن الذهبي، وهو أكبر ثريّ في العلا، بدأ العرض الجميل...

والبداية كانت مشاهد وصورا لأهم الأحداث السياسية والثقافية في تونس... وهكذا شاهدنا الزعيم بورقيبة يستقبل الوزراء وكبار المسؤولين في الدولة والحزب، أو هو يخطب داعيا إلى تحديد النسل، ومقاومة كل مظاهر الجهل والتخلف...أعقب ذلك مشهد لسباق الخيول في مهرجان شعبي في الجنوب التونسي...وأذكر أن عددا كبيرا من المتفرجين، وجميعهم كانوا واقفين، فروا من أمام الحائط مذعورين، ظانين أن الخيول سوف تقتحم الحائط لتدوسهم...فلما لم تفعل ذلك، جلجلت الضحكات عاليا في الليل الدافئ...

وكان الفيلم بديعا تتابع أحداثه بنسق مثير حتى أن الصمت الذي يكون منعدما في التجمعات الكبيرة طغى حتى أنه كان بإمكاننا أن نسمع "الإبرة وهو تسقط على الأرض" كما يقول الناس هناك. وقد شدنا الفيلم من بدايته إلى نهايته حتى أن مشاهده وصوره ترسخت في ذاكرة الكثيرين منا. وأذكر أني كنا تمثيل بعض المشاهد ونحن عائدون في المساء من المدرسة من هذا الفيلم الذي يروي قصة صراع بين الفلاحين الفقراء في صعيد مصر ضد اقطاعي خبيث أغرق محاصيلهم من قصب السكر في مياه السد عقابا على تمردهم عليه. وكانت قصة الحب بين عمر الشريف وفاتن حمامة من أروع أحداث ذلك الفيلم الذي ألهب عشقنا للسينما فلم نعد نفرط في مشاهدة أي فيلم تعلن عنه السيارة الخضراء التابعة لوزارة الشؤون الثقافية.

ولما انتقلت للدراسة في معهد حفوز في خريف عام1965، أصبحت السينما تحتل مكانة بارزة في فضولي المعرفي مع الكتب. وبفضل الأفلام التي شاهدتها خلال السنوات الثلاث التي أمضيتها في حفوز، امتلكت ثقافة سينمائية سيكون لها تأثير هام على مسيرتي الأدبية. وفي العديد من القصص والروايات التي كتبتها، تحضر السينما بقوة خصوصا في الحوارات، وفي تقنيات الكتابة.

وأظن أن جميع أبناء جيلي استفادوا بطرق وأشكال مختلفة من السياسة الثقافية التي خطط لها الراحل الشاذلي القليبي. لذا يمكن اعتبار السنوات العشر التي أمضاها على رأس وزارة الثقافة فترة ذهبية في تاريخ الثقافة التونسية في جوانبها الحداثية بالخصوص.

ففي هذه الفترة تركز الاهتمام على تطوير ودعم الشركة التونسية للإنتاج والتنمية السينمائية التي وضعت اللبنات الأولى لبعث سينما وطنية. كما أنها انفتحت على السينما العالمية من خلال مهرجان قرطاج السينمائي ليتعرّفَ أحباء الفن السابع على كبار المخرجين، وعلى مشاهير من النجوم من العالم العربي، ومن افريقيا، ومن جميع أنحاء العالم.

وقد ساهمت نوادي للسينما التي تشكلت في جميع أنحاء البلاد في نشر الوعي، والتحفيز على الانفتاح على الثقافات الأخرى، وعلى إعادة الاعتبار لدور الصورة المُغيّبة في الثقافة التقليدية. وكانت تلك النوادي تستقطب الشبان، وتوفر لهم فرصة للنقاش والتحاور حول قضايا اجتماعية، وسياسية، وثقافية، وأنثروبولوجية وغيرها. وأظن أن تلك النوادي هي التي عمّقت لدى العديد من أبناء جيلي مفهوم الحداثة لتنقذ الكثيرين منهم من التعصب، ومن التزمت الفكري والعقائدي. وأنا شخصيا أدين بالكثير من الفضائل لتلك النوادي التي ساعدتني على امتلاك أدوات الفكر النقدي، وعلى التحرر من المسلمات واليقينيّات، ومن التحليل الأحادية الجانب الرافضة للإختلاف والتنوع، والمحرضة على أن ننظر إلى الحياة وإلى العالم أما بالأبيض، وأما بالأسود فقط لا غير...

وإلى جانب مهرجان قرطاج للسينما العربية والافريقية، بعث الأستاذ الشاذلي القليبي مهرجان قرطاج الصيفي الذي أتاح للتونسيين اكتشاف الجوانب المشرقة في تراثهم في مجال الفنون الشعبية وما تتضمنه من رقص وغناء واشعار، فاتحا الباب واسعا للمواهب الفنية الصاعدة في جميع المجالات، وجاعلا من الثقافة المتنوعة، والمتعددة المظاهر والرؤى عنصرا أساسيا في بلورة وتجسيد مفهوم جديد وحديث للثقافة الوطنية.

وفي عهد الشاذلي القليبي، حظي المسرح التونسي باهتمام كبير خصوصا بعد أن ألقى الزعيم بورقيبة خطابه الشهير الذي قال فيه: أعطوني مسرحا جيدا، أعطيكم شعبا عظيما. وبذلك خرج المسرح من العاصمة لتأسس في العديد من المدن الداخلية فرق مسرحية لعب دورا كبيرا في تطوير المسرح التونسي، وجعله أداة أساسية ناجعة لما يسمى ب"الثقافة الجماهيرية"... وهذا ما حدث مع فرقة الكاف، ومع فرقة قفصة، ومع فرقة المهدية، ومع فرقة القيروان، ومع فرق مسرحية أخرى...

وللراحل الكبير إنجازات هامة في مجالات متعددة...
لكن ما أرغب في الإشارة إليه هو أنه-أي الشاذلي القليبي- كان من رموز جيل "أرادة الحياة". ذلك الجيل الذي بدأت بوادره الأولى تظهر في العشرينات من القرن الماضي مع محمد علي الحامي الذي أدرك بعد السنوات الخمس التي أمضاها في برلين أن المجتمعات لا ترتقي، ولا تتقدم، ولا تتحرر إلاّ ببعث مؤسسات توفر لها وسائل التوحد والتضامن، وتسلحها بثقافة جديدة تقوم على التوعية والنقد.
وفي مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، حدثت الولادة الحقيقية لجيل "إرادة الحياة" مع أبي القاسم الشابي ، ومع جماعة "تحت السور"، ومع محمود السعدي، ومع أخرين في المجال الأدبي، ومع الطاهر الحداد في مجال النقد الاجتماعي ... غير أن جل أبناء هذ الجيل المأساوي لم تتوفر له فرصة اكمال "المشاور" إذ اختطف الموت جلهم وهم سن الشباب.، ولم يتبقى منهم سوى محمود المسعدي الذي أسعفه الحظ ليعيش عمرا مديدا. وقد تزامن مع تلك الولادة الحقيقية لديل "إرادة الحياة" بروز الحزب الحر الدستور الذي قاد تونس إلى الاستقلال...

ويمكن القول أن الراحل الشاذلي القليبي هو أحد الورثة ل"جيل إرادة الحياة". ولعل هذا ما حفّزَهُ على أن يكون من المؤسسين الكبار لدولة الاستقلال ، مؤمنا أن الفعل وحده هو الذي يصنع التاريخ، ويطور المجتمعات، ويوفر فرصة ولادة الانسان الجديد، وبعثه من رماد الحياة والوجود.

وقد رحل الشاذلي القليبي في فترة عصيبة من تاريخ تونس...فترة تكثر فيها الخطب الرنانة، والشعرات الجوفاء، والنزاعات العقائدية والأيديولوجية المدمرة ، وفيها يكاد ينعدم الفعل الخلاق، الصانع للتاريخ... لذلك أظن أنه انطلق إلى العالم الآخر وفي قلبه حسرة على تونس التي أحبها وخدمها بإتقان وتفان وإخلاص مثل كل أبناء "جيل إرادة الحياة"...
على روحه السلام ...