عندما يثني أحد العرب من المخدوعين على تركيا فإنه يثني عليها من منطلق ديني مُتوهَّم ومبني على فكرة وصورة مغلوطة، فتجده ينسب تلك الإنجازات إلى أردوغان الذي هو بالنسبة لهم النموذج المثالي الأبرز والأقرب للحاكم المسلم!

ولا يعلم هذا الجاهل أن ما تنعم به تركيا من تقدم نسبي وازدهار فإن الفضل في ذلك يعود إلى مصطفى كمال أتاتورك، بمعنى آخر؛ الفضل يعود للنظام العلماني الذي تبنَّاه أتاتورك فكراً وفلسفةً وسياسةً. ولكن تركيا حالياً بقيادة أردوغان والذي ينتمي إلى حزب العدالة والتنمية وهو الحزب القائم على فكرة إحياء العثمانية، يبدو أنه يميل بوجدانه ويتطلَّع إلى إعادة الحكم الديني سواءً عن طريق العودة إلى نظام الأجداد(الخلافة العثمانية) أو عن طريق إحياء النزعة الدينية في المجتمع التركي لتكون بعد ذلك عاملاً مساعداً له في ترويض الشعب وتشريع ديكتاتوريته ليُصبح أكثر جرأة ويحقِّق أهدافه وأطماعه التوسعية شيئاً فشيئاً.

في الواقع يبدو أن أردوغان يعتقد أن الشعب التركي ساذج إلى هذا الحد، ولكنه سيتفاجأ ويصحو من أحلامه عندما يصطدم هو وأتباعه وحزبه بإرادة وانتفاضة الشعب التركي الذي رضع وتشرَّب مفاهيم الحرية والعلمانية منذ عهد أتاتورك. ثم إن ثقافة وأسلوب حياة وسيكولوجية الإنسان التركي والبُعد السوسيولوجي له أقرب الى الشعوب الأوروبية منه إلى الشعوب العربية والإسلامية، أي أن قضية الحكم الديني أو موضوع الخلافة العثمانية والحنين لها ليست في وجدانه مطلقاً.

وفي حقيقة الأمر لو تمنَّى أردوغان وأتباعه والشعب التركي جميعاً عودة الخلافة العثمانية، فقد يُعذَرون في ذلك، لكن المؤلم حقَّاً هو أن نجد عرباً يتمنون ويحلمون بعودتها! ولو كانوا يحلمون بعودة الخلافة الإسلامية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وزمن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، فقد نلتمس لهم العذر، أو حتى يتمنَّون عودة الدولة الأموية أو العباسية، فتاريخ تلك الدولتين مُشرِّف للعرب والمسلمين بما حملته من قيم قائمة على التسامح، والتعايش مع غير المسلمين، حتَّى أن المسيحيين كانوا يحصلون على وظائف عليا في تلك الدولتين، وبما شهدته من إنجازات، وإسهامات حضارية؛ لكنهم وبكل أسى يحلمون بعودة حقبة إجرامية لا خير فيها للعرب ولا للمسلمين، بل كانت سبباً في عزلة العرب، وتخلُّفهم على مدى قرون من الزمن، حقبة كانت سبباً في تشويه الصورة الحقيقية للإسلام بتقديمه في صورة دموية وعنصرية دينية وعرقية، حقبة كانت ولا تزال وستظل عاراً يلاحق من يعتبرون أنفسهم أحفاداً لهم.

وكأنَّ هؤلاء الحمقى لا يعلمون عمَّا قام به العثمانيون من جرائم بحق العرب لا لشيء سوى أنهم عرب، وما ارتكبوه من إبادة جماعية بحق الآرمن لا لشيء سوى أنهم مسيحيون.

ألا يرى هؤلاء الخونة ما تفعله تركيا حالياً في بلداننا العربية(ليبيا، سوريا، العراق) من تدخُّل وانتهاك لسيادة هذهِ الدول وسرقة لثرواتها ومُقدَّراتها؟ وما ترتكبه من جرائم مريعة بحق الأكراد الأبرياء؟

والخطوة الأردوغانية المتطرِّفة الأخيرة التي تم فيها تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد؛ أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن النظام التركي الحالي بدأ يقترب من أسلوب النظام الإيراني والميليشيات الإرهابية، ويكاد يتلاشى الفرق بينه وبين الجماعات الإرهابية كداعش والقاعدة. وهذهِ الخطوة ليست إهانة بحق المسيحيين فقط؛ بل هي إهانة بحق كل إنسان يحترم حرية الأديان ومشاعر أتباع كل دين، ويجب على العالم كله أن يقف وقفة واحدة ويستنكر هذا الاعتداء السافر والتشويه البشع بحق التاريخ وبحق الأديان. وإن تم السكوت عن ذلك، فلا يُستغرب بعد سنوات قليلة أن نشاهد تركيا تخلو من أي كنيسة! لأنه وفقاً للعثمانية الجديدة لا مكان لأي دين آخر في تركيا سوى الإسلام.

بعد أن سقط نظام الشاه العلماني بفعل الثورة الإسلامية، زالت مظاهر الرقي والحضارة التي كانت تمتاز بها إيران، فهل ينتظر الأتراك إلى أن تتحول بلادهم إلى إيران الثانية؟
هل سيسمح الأتراك لأردوغان بقتل أتاتورك كما قتل الخميني الشاه محمد رضا بهلوي؟

أردوغان يحرق ويدمر كل ما بناه أتاتورك من مجد عظيم للأتراك، ولا أعتقد أن الشعب التركي سيظل صامتاً وهو يرى من يقودهم نحو الرجعية والتطرف والدمار.