من هم الفلاسفة الأكثر حضورا في عالم اليوم؟

مُجيبة على هذا السؤال، تقول الفرنسيّة كاترين غوليو أن سبينوزا، وكانط، وهيغل هم الأكثر حضورا في عالم اليوم الذي يشهد تقلبات عنيفة، وبروز مذاهب وايديولوجيات تحرض على العنف والكراهية. كما تشهد عودة الشعوذة والسحر في مجتمعات الدول المتقدمة. وهي تضيف قائلة :”نساء يحاكمن بالإعدام اعتمادا على القرآن لأنهن اغتصبن. أمريكيون يؤكدون أن العالم خلق بحسب روزنامة سفَرَ التكوين.

شخصيّات أوروبية كبيرة ونافذة تسافر الى افريقيا السوداء لدراسة السحر والإنتفاع من "فضائله". هل نحن على وشك الإنحدار الى عالم الجنون مستعملين الأسلحة التي هي أسلحتنا، والتي هي حرية الفكر والوجود، والعقل، والأخلاق، والقانون؟ ".

وترى كاترين غوليو أنه من الضوروي العودة إلى فلاسفة أمثال سبينوزا وكانط وهيغل لفهم الإنحرافات الدينية والمذهبية، ولمواجهة مظاهر الظلم والإستبداد. فقد كان هؤلاء يمتلكون الشجاعة والقدرة الفلسفية للتصدي لكلّ شكل من اشكال الشعوذة، والإنحراف، و لكلّ ما يتنافى مع العقل البشريّ، ومع المبادئ التي تدعو الى التسامح، والتضامن بين الشعوب. لذا تعتقد كاترين غوليو إن أطروحات هؤلاء الفلاسفة لا تزال تسكننا الى حدّ هذه الساعة. كما أن نصوصهم يمكن أن ترشدنا إلى الحلول الناجعة لقضايا عصرنا.

ويرى الفرنسي الآخر جان ميشال باستييه أن سبينوزا وكانط وهيغل هم المؤسسون للفلسفة الحديثة بجميع فروعها. وهم كانوا أول من خلّص الفلسفة من هيمنة السلطة الدينيّة ، ونادوا بأن يكون الإنسان حرّا لكي يكون موجودا بالفعل، داعين اياه الى التفكير بدوره حول العالم بالإستناد الى العقل".

وفي مقالة، ذكر بيار-فرانسوا مورو أن الفيلسوف الهولندي باروش سبينوزا (1632-1677) هو اليوم الفيلسوف الاكثر قربا منّا. لذا لا تزال مؤلفاته تحظى باهتمام القراء والنقاد على حد السواء. وقد منح سبينوزا أولويّة للعقل، مُستندا في ذلك الى التطورات العلمية التي شهدتها أوروبا في القرن السابع عشر. لهذا السبب ، شنّت ضدّه السلط الدينيّة اليهودية التي تنتمي إليها عائلته هجومات عنيفة متهمة اياه ب"الإلحاد والكفر". وجرّاء مثل هذه التهم ، ذاق الأمّرين. مع ذلك رفض التراجع عن أفكاره. ويقول بيار -فرانسوا مورو بإن سبينوزا هو الوحيد الذي استطاع أن يطبق منهج ديكارت تطبيقا جذريّا في المجالات التي استبعدها ديكارت من منهجه، خاصة في مجال الدين. ثمّ إن سبينوزا طبّق منهج الافكار الواضحة والمتميّزة في مجال الدين والعقائد .فليس العقل فقط هو أعدل الاشياء قسمة بين الناس، بل هو أيضا أفضل شيء في وجودنا. ويكون كماله خيرنا الاقصى. وسبينوزا هو أيضا الوحيد بين الديكارتيين الذي طبق منهج ديكارت في السياسة. فقد دَرسَ أنظمة الحكم، وقارن بينها، وانتقد الانظمة التسلطيّة القائمة على حكم الفرد، لينتهي الى القول بإن النظام الديمقراطي هو النظام الاكثر انسجاما مع العقل، ومع الطبيعة.

ويرى سبينوزا أن الكثير من الناس يستخدمون الدين ذريعة ليفعلوا ما يشاؤون. وفضلا عن ذلك، فإن الإنقسام الى شيع، والى ملل ، لا ينشأ عن رغبة صادقة في معرفة الحقيقة (لأن هذه الرغبة تؤدي الى الطيبة والتسامح)،بل عن شهوة عارمة للحكم .ومن ذلك يتبيّن بوضوح أن دعاة الفتنة هم أولئك الذين يدينون كتابات الاخرين، ويثيرون غضب الشعوب ضدّ مؤلفيها. وهم مثيرو الشغب الحقيقيون الذين يريدون في دولة حرة القضاء على حرية الرأي التي لا يمكن القضاء عليها..

وأما فلسفة كانط(1727-1804) كما يرى الى ذلك لوك فيري ،والتي تزامن ظهروها مع الاكتشافات العلميّة الكبيرة خلال القرن الثامن عشر، فهي تقوم على اعطاء القيمة العليا للإنسان الذي يتحتم عليه، بحسب الإمكانيات المتاحة له، منح معنى للعالم من وجهة نظر المعرفة ،والاخلاق والمصالح السياسية. وفي مؤلفه الذائع الصيت "نقد الفكر الخالص"،الصادر عام 1781، يطرح كانط أفكاره على النحو التالي :إذا ما كان العالم قد أصبح فوضى، ونسيجا من القوى المتصارعة والمتقاتلة، فإنه يتحتم على رجل العلم بواسطة قوة عقله، أن يعيد النظام للعالم ، وأن يمنح الواقع معنى جديدا. وهذه هي بحسب رأيه مهمة العلوم الحديثة التي لا تقوم على التأمل في تراث الإغريق القدماء ،وإنما على العمل، وعلى البلورة الحيوي، وتأسيس قوانين تسمح بإعادة الإنسجام والهدوء لعالم يتخبط في الفوضى. وفي كتابه المذكور، عبّر كانط عن موقفه من الدين، وكتب في ذلك يقول:”إن قرننا (يعني بذلك القرن الثامن عشر) هو قرن النقد من دون منازع .النقد الذي يجب أن يرضخ له كلّ شيء بما في ذلك الدين بحكم قداسته والتشريعات بحكم مهابتها
ويعتقد فرانسوا كارفيغان أن هيغل(1770-1831) وسّع مجال الفلسفة ،وفتح أبوابا جديدة لم يتمّ طرقها من قبل. وقد أتاحت له معارفه الموسوعية بأن يلقب ب"أرسطو" عصره.

فقد اهتم بالكيمياء، وبعلم التنجيم، وبعلم النفس، وبالإقتصاد، وبالسياسة وبالفنون بجميع أنواعها. كما اهتم بالتاريخ اهتماما كبيرا. لذا يمكن أن نقول بإن جميع الفلاسفة الذين اشتهروا في القرنين التاسع والعشرين مثل ماركس، ونيتشه، وكيركوغارد، وكوجيف، وهايدغر، وغيرهم استندوا إلى فلسفته، ومن وحيها بلوروا مفاهيم وأطروحات جديدة.

وعن هيغل كتب فرانسوا كيرفيغان يقول :”في الفلسفة الهيغلية ، لا تحتل فلسفة مفهوم "الانا العزيزة" مكانا كبيرا إذ أن هيغل يمقت التحدث عن نفسه مخيرا موقع الكاتب الذي يكتب ما تمليه عليه روح العالم. مع ذلك هو يحكم علينا بأن نقوم بتفسيره. وهو يقول بإنه من الغباء أن نحلم بأن أيّ فلسفة مهما كان نوعها، يمكن أن تتعدى حدود العالم الذي تبرز فيه. إن فلسفة هيغل لا تتحدث اذن عن عالمنا، لكنها تمنحنا أدوات قوية لكي نتوصل الى التفكير في ماهيته. وكان هيغل أول من طرح أيضا مسألة "نهاية التاريخ"التي اختارها فوكاياما لكي تكون حجر الزاوية في أطروحاته بعد انهيار الشيوعية".