يرى المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري أن (العقيدة – القبيلة – الغنيمة) تشكل محددات العقل العربي على مر تاريخه؛ ورغم الفترة الزمنية الطويلة التي تشكلت عبرها هذه المحددات إلا أن مفاعيلها وحضورها في العقل العربي الحالي ما زال قائما!
لقد كان طموح رواد نهضتنا الحديثة بعد زوال مرحلة الإستعمار الحديث، أن نقطع مع هذه المحددات ونتجاوزها؛ وذلك من خلال الأخذ بما وصلت إليه الأمم المتقدمة علينا في الشأن السياسي وآليات التعاطي معه. ولكن وكما قال الشاعر المتنبي:

ما كُلّ ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

عاد إلينا – حسب الجابري- المكبوت وتجلَّى في صورته القديمة ليفعل فعله في واقعنا الجديد القديم؛حيث فشلنا في إقامة دولة وطنية جامعة تتجاوز عصبيات “ما قبل الدولة “،والتي كنا نظن بأنها قد ذوت ولكنها عادت و خرجت من قارة لا وعينا فحكمت وعينا، أي أن "لا شعورنا الجمعي" عاد للتحكم في شعورنا الحالي وأخذ يوجهه نحو اتباع سنة أجدادنا، التي حكمت مسيرتهم على مر التاريخ!

وأنا هنا لا أريد هجاء ماضينا، بل إنني أتألم من أن نبقى أسرى له ب"عجره وبجره"، وهو الذي تشكل في مراحل تاريخية خاصة به، تجعلنا نتفهم ذلك باعتباره ينتمي لسياقات إجتماعية واقتصادية وثقافية مرهونة بشروط واقعه وبالتالي لا يمكن مطالبة من عاشها أن يكون متقدماً علينا ولكن من الواجب علينا أن نحلل ونتعرف على ما حدث وجرى حتى نتجاوز سلبياته ونتواصل مع ما فيه من قيم ايجابية، لنضيف عليها ما أنتجه العقل الإنساني الحديث والمعاصر وذلك وفق قاعدة "القطيعة والاتصال».

نحن والذاكرة المثقوبة
لا ينكر أن كل شعوب الأرض قد عرفت مراحل تاريخية تشبه ماضينا وحاضرنا؛ لكنها نفضت عن نفسها نزعة الحنين إلى الماضي أو العيش فيه، فتجاوزته على مراحل حتى نجحت في ذلك بينما بقينا نحن نسكن في ماضينا، ولا نريد الخروج منه بحيث يخال للناظر إلينا، بأننا نعيش في العصور الوسطى ولم ندخل بعد حقبة التاريخ الحديث!

إذن عادت المحددات الثلاث -سأكتفي بالحديث هنا عن القبيلة والعقيدة- اللتان تحكمتا في تاريخنا فالقبيلة نافست الدولة الوطنية حين تطلعت للاستئثار بكل شيء وفقا لتقاليدها وقوانينها التي انبجست من الصحراء.

وهذا ما فعلته ذات يوم مع مشروع الدولة العربية الإسلامية، التي تشكلت عبر التاريخ منذ ظهور الإسلام وما بعده، فهي لا تؤمن بالمشاركة والتداول بل إنها وفيةً لثقافة الغزو التي اعتادتها في الجاهلية الأولى حيث سحبت قانون الصحراء إلى عقلنا السياسي، فتحول إلى بيداء وأرض يباب، لا تكاد تنبت فيه، أي مفردات سياسية تصلح من شأننا وواقعنا المأزوم، مما جعله عقيماً وغير قادر على إنتاج أي مفهوم أو مصطلح سياسي يخفّف من وطأة مأزقنا الذي نحن فيه.

اغتيال العقل
أما المحدد الثاني الذي سيطر على وعينا الجمعي فهو (العقيدة)؛ حيث تمظهر وتجلى في أيديولوجيات دينية تقدم نفسها على أنها تمتلك الحقيقية المطلقة، وبالتالي حقها في تنفيذ مشروعها المتمثل في إقامة "الدولة الدينية"، فاصطدمت مع باقي "القبائل الدينية" المنافسة لها؛ التي تزعم هي الأخرى، امتلاك حقيقة الدين والدنيا، فاشتعلت الحروب الطائفية والمذهبية وأصبح لكل عشيرة منها جيشها الخاص بها، الذي استباحت به دماء الآخر المختلف معها في الدين والمذهب والمشترك معها في الوطن فأهلكت الحرث والنسل!

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنها إدعت النطق بلسان السماء، وهددت من يخالفها الرأي بالويل والثبور؛ فعم الإرهاب ساحات شرقنا الأوسطي، وساده الفكر الظلامي الذي منع العقل من أن يتحرر من عِقاله. وهكذا تعرض عقلنا للاغتيال مرة أخرى؛ فبعد أن اغتيل أول مرة في تاريخنا القديم على يد من حرّم الفلسفة والتفلسف، ها هو يغتال مرة أخرى على يد هؤلاء القابضين على الحقيقة المطلقة حسب ما يزعمون!

ولم يتفرد هؤلاء "الموقعين عن رب العالمين" بهذا العقم والجمود السياسي بل قاسمهم فيه بعض التيارات والأحزاب (العلمانية) التي تزعم أيضا امتلاكها حقيقة مشروع النهضة والتقدم؛ حيث إنها تعاملت مع عالم السياسية، بطريقة حالمة وغير واقعية صيرت أفكارها إلى أيديولوجية جامدة، لا تختلف عن أدلجة الإسلامويين!

وقد ساهمت الأحزاب والتيارات التي انتسبت إلى الدين أو العلمنة، في شيوع مفاهيم ومصطلحات أدت إلى رفع منسوب العقم والجفاف في عقلنا السياسي الجمعي، منها على سبيل المثال لا الحصر: مصطلح "نظرية المؤامرة" الذي اكتسح قارة اللاشعور الجمعي عندنا، فأصبح يتحكم في رؤيتنا للأحداث ومجرياتها، مما أصابه بالعجز في حل مشاكلنا وأزماتنا، وغدت "عقلية المؤامرة" سلوك بسطاء الناس ومثقفيهم على السواء؛ بحيث صرنا نعتقد بأننا رقعة شطرنج كبرى؛ يتقاتل الجميع على الاستحواذ عليها، مما جعلنا نلقي بمسؤولية ما نحن فيه على الآخرين الطامعين، وبذلك أرحنا أنفسنا من عناء النقد الذاتي، والبحث عن حلول تخرجنا من الجحيم الذي تعيشه منطقتنا!

كما أدى غياب المرونة في التعاطي مع شؤون السياسية ومشاكلها، إلى تعقيد أزماتنا حيث لا حلول وسط ولا طريق ثالث، بل إننا نتعاطى مع السياسية وفق عقلية الغزو القبلية التي سادت حقباً من تاريخنا الماضي والقريب.
كل ذلك انتج في منطقتنا حالة من التأزم في العلاقة بين أطراف من هم في "دائرة الفعل السياسي" لأنهم جميعا يفكرون بمنطق القبيلة القائم على نظرية "الصراع الصفري»؛ لا بمنطق العقل السياسي الحديث الذي يعتبر السياسية "فن إدارة المصالح"، مما جعل أغلب مجتمعاتنا تعيش في حالة من الفوضى غير الخلاقة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن أن نصنع أثراً بسيطاً من شأنه أن يخلق تغييراً كبيراً في المستقبل؟

أثر الفراشة
رغم هذه المعالجة الناقدة لما نحن عليه من بؤس وفقر في العقل السياسي؛ إلا أنني أميل عادة للتفاؤل والتفكير الإيجابي نحو إمكانية تخطي أزماتنا؛ والذي يشجعني على ذلك أن شعوباً كثيرة قد مرت في مسيرتها بمحطات تشبه ما نحن عليه الآن، فعالجت سلبيات واقعها الذي تسلل إليها من ماضيها السحيق، فتجاوزتها وتحررت منها ثم انطلقت نحو أفق التقدم، وربما نقوم بإجراءات صغيرة؛ لكنها عميقة في لا شعورنا الجمعي، قد تؤدي إلى إحداث التغيير المنشود؛ وهو تغيير يسمى في عالم الفيزياء والفلسفة بنظرية "تأثير الفراشة" التي تنص على أن:"رفرفة جناح فراشة في الصين قد ينتج عنه فيضانات وأعاصير ورياح هادرة في أبعد الأماكن في أمريكا أو أوروبا أو أفريقيا»، تماماً كما قال الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش:

أُثرُ الفراشة لا يزولُ
أَثرُ الفراشة لا يُرَى!

وعليه يمكننا أن نتجاوز المحددات التي تحكمت في آلية اشتغال عقلنا السياسي عبر تاريخنا الطويل؛ ويكون ذلك باستبدال روابط مرحلة "ما قبل الدولة» إلى مرحلة تأسيس عقد اجتماعي جديد يقوم على أسس جديدة تكفل بناء مجتمع، يستند على قيم المواطنة كهوية جامعة ومتجاوزة للهويات الفرعية، سواء أكانت قائمة على صلة القرابة أو الدين أو المذهب، وذلك قابل للتحقق في عالمنا العربي؛ إن اتفقنا جميعا على ضرورة قيام الدولة الديمقراطية المدنية التي تعمل وفق مبادئ المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية والحرية الفردية والمساواة بين جميع مواطنيها. فإذا عزمنا وتوافقنا على ذلك فربما تجري رياحنا بما نشتهي كقول الشاعر:

تجري الرياح كما تجري سفينتنا
نحن الرياح ونحن البحر والسفن