قرار الرئيس التركي تحويل مَعلم آيا صوفيا الى مسجد، ما هو الا فصلٍ جديد من فصول مقارعة طواحين الهواء كما كان حال الشخصية الرئيسة في رواية دُون كيشوت او كيهوتي. آيا صوفيا مثلت رمزاً من رموز التسامح والتصالح مع التاريخ العثماني من قبل مؤسس تركيا الحديثة كمال اتاتورك. الا ان حجم النزق الذي تعانيه الأردوغانية السياسية هو مؤشر على حالة عدم إتزانها خصوصا وان الرئيس اردوغان شخصيا قد سَفه مطالبة محازبية تحويل آيا صوفيا الى مسجد، مع ادراك الجميع ان الأمر لم يتعدى تمثيلية سياسية كان القصد منها تصحيح مسارات علاقاته مع اوروبا.

الرؤية الاستراتيجية للرئيس اردوغان تقوم على إعادة احياء تبعية العالم العربي وما امكن من العالم الاسلامي السني للأستانة الجديدة، وتسليع ذلك الثقل السياسي تذكرة دخول في عضوية الاتحاد الاوروبي. وهي ليست بالاستراتيجية الجديدة، فقد سبق للدولة العثمانية عهد السلطان عبدالحميد ان دعت لتأسيس الجامعة الاسلامية في عام ١٨٧٦ بهدف انقاذ "رجل اوروبا المريض" من الانهيار الكلي. فما كان من السلطان الا ترقية شخصه الى "خليفة للمسلمين" لضمان التحصل على الدعم المالي من عموم المسلمين، وكذلك في توظيف الخارطة الاسلامية في خدمة مصالحه وحلفاءه. وليس بمستغرب ان يكون التاج البريطاني احد اكبر داعمي ذلك المشروع، لما للجغرافيا الاسلامية من فائدة في احتواء الاطماع التوسعية لروسيا القيصرية جنوب قزوين.

فشل الدولة العثمانية في فهم التوازنات الجيواستراتيجية حينها يماثله فشل الاردوغانية في التعاطي بواقعية مع حجم التزاحم الجيواستراتيجي بين الشرق والغرب في عموم منطقة الشرق الاوسط والادنى. وحتى بعد تأكد الجميع من فشل مشروع الشرق الاوسط الجديد واداته الكبرى الربيع العربي، الا ان تركيا اردوغان لا زالت ترفض حتى فكرة التصالح مع ذلك الواقع. وكلنا يستطيع استشفاف ذلك من خلال سياسات تركيا العبثية في اكثر من ملف عربي، من سوريا الى العراق، ومن السودان الي الصومال. وما تورطها العسكري في تركيا الا تأكيداً لنزق الاردوغانية، "تركيا اليوم تستطيع شن عملية عسكرية في اي مكان دون الاستئذان من احد، ان في ذلك حماية لمصالها القومية"، ذلك ما صرح به الرئيس التركي لمناصريه اثناء زيارة رسمية لبريطانيا اواخر العام الماضي.

وبالعودة لقراره الاخير بتحويل الصفة القانونية لآيا صوفيا من متحف الى مسجد، الا فصلٍ جديد من العبث الاردوغاني، ومحاولة لا يمكن وصفها الا بالابتزاز المعنوي لحلفائه الاوروبيون، لما لدلالة وقوع اسطنبول في الجانب الاوروبي من تركيا بعد فشله في اقناعهم بشرعية مغامراته في المتوسط وشمال افريقيا.

الهروب الى الامام هو ما اعتمدته الاردوغانية مبدأً في ادارة ملفاتها الوطنية والخارجية، لذلك فأن قرار تحويل آيا صوفيا الى مسجد، كان نتيجة فشله في رد الصفعة التي تلقاها في قاعدة الوطية الليبية.