يشكل موضوع الأقليات مأزقا مزعجا لأنظمة الحكم في دول العالم الثالث ومن ضمنه العالم العربي، وهو موضوع تستغله الحكومات الغربية لابتزاز هذه الدول تحت غطاء الدفاع عن حقوق الإنسان من مفهومها الاستعماري لهذه الحقوق ومن دافع مصالحها السياسية والاقتصادية. وقد شكل هذا الموضوع في أحيان كثيرة عامل ضغط سياسي، واستخدم كورقة للتدخل الخارجي في شؤون حكم الكثير من الدول لتحقيق مصالح سياسية واستراتيجية، وتعد الولايات المتحدة اكثر من استخدم هذه الورقة في سياستها تجاه دول العالم الثالث.

إن الظهور السياسي للأقليات يمثل ظاهرة عالمية إذ لا تنفرد بها قارة او منطقة بعينها، لكنها في معظم الدول النامية أصبحت اكثر جرأة في المطالبة بحقوقها وتسعى للاعتراف بوجودها ولغاتها وثقافاتها وحقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية. وفي اعتقادنا ان ظهور الأفكار الديمقراطية وانتشار ثقافة حقوق الانسان منذ النصف الثاني من القرن الماضي هو ما شجع الأقليات العرقية والدينية على المطالبة بحقها في المساواة، فبدأت تطالب بالاعتراف بهويتها وحقوقها.

الوطن العربي يتميز بالتنوع والاختلاف والتمايز إذ يضم عددا كبيرا من المجموعات الإثنية والدينية والمذهبية، وغالبية الأقليات في المنطقة العربية لها جذور تاريخية عميقة، وقد أثرت هذه الأقليات بشكل كبير في التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية والآيدولوجية خلال القرنين الماضيين. ويفترض على المستوى النظري والعملي ان تمثل هذه الأقليات عاملا ذا بعد إيجابي في الحياة العربية إذ يمكن ان تضيف تنوعا الى المجتمعات العربية يجعلها اكثر ثراء سياسيا وثقافيا واجتماعيا وتسامحا وانفتاحا.

موضوع الأقليات في الوطن العربي يمثل احد الموضوعات الحساسة، والتطرق اليه وبحثه لا يعتبران في نظر الكثيرين من السياسيين والمفكرين نوعا من النشاط الفكري البريء، وهذه النظرة غير الموضوعية ربما تستمد جذورها من الماضي حينما عمدت القوى الاستعمارية لاستغلال البعض من هذه الأقليات في محاولة لتقسيم الوطن العربي او غزوه، وفي اضعاف روح مقاومة الحكم الاستعماري. ولا تقتصر هذه النظرة الضيقة على العرب وحدهم بل إن اغلب الأقليات العرقية والدينية في دول العالم الثالث ينظر اليها باعتبارها تهديدا لقوة ووحدة الدولة.

وفي وقتنا الحالي أصبحت مسألة الأقليات علامة على التحضر من عدمه. فالدول المتحضرة تبحث عن نقاط التوافق حتى تنميها وتحولها الى طاقة إيجابية فاعلة إضافية، اما الدول المتخلفة فتبرز فيها مواطن الشقاق والاختلاف التي تجد دائما من يثيرها ويغذيها محاولا الاستفادة منها لخدمة مصالحه كما هو حال معظم القوى الكبرى. وجود الأقليات في أي مجتمع يتحول الى مشكلة حينما يفشل هذا المجتمع (لعوامل سياسية وثقافية وموروثات اجتماعية) في تكريس قيم التسامح واحترام الآخر وقبوله كما هو، وصيانة حقوق الانسان بشكل عام.
التعايش والاندماج يقتضيان قبول كل من الأغلبية والأقلية بضرورة إشاعة روح التسامح وقيم التعايش السلمي، وهذا يوجب على الأقليات ألا تتقدم بمطالب تمس وحدة الوطن الجغرافية او تطمس هويته بحيث لا تستطيع الأغلبية او الأكثرية قبولها. ومن الأفضل ألا تضع الأقليات مصيرها بيد معارضة سياسية ذات طابع آيديولوجي او مذهبي، بل عليها ادخال مطالبها الشرعية في برنامج مشروع وطني مشترك وجعلها مقبولة ومدعومة من قطاعات واسعة من الرأي العام. وللحكومات دور كبير ومهم في تكريس قيم التعايش والتسامح والاندماج الاجتماعي، إذ ان عليها ان تتيح تكافؤ الفرص السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والثقافية والوظيفية للجميع على قدم المساواة، فلا يعقل ان تحرم كفاءة في خدمة وطنها من موقع تخصصها وتميزها بسبب انتماءها العرقي او العقائدي او السياسي او الاجتماعي. كما يجب على الحكومات احترام وصيانة الحقوق السياسية والدينية والثقافية (لجميع مكونات شعوبها) عبر مؤسسات وقوانين دستورية تؤسس لسياق وطني يصون حقوق الجميع. والداء الأكبر الذي يعرقل أي اصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي ويثير الفتن والأحقاد بين أطياف المجتمع هو الاستبداد بكل انواعه.