منذ تتويجه رئيسا للجمهورية، لم ينقطع قيس سعيد عن مراكمة الأخطاء الفادحة من دون أن يكون واعيا بأخطارها وبتبعاتها السلبية عليه شخصيا، وعلى الأوضاع في بلاد تتخبط في الأزمات، وتعيش أشكالا من الفوضى المرعبة التي تهدد بنسف استقرارها وأمنها...

وأول هذه الأخطاء سماحه لنفسه بالترشح لمنصب في أعلى مستوى رغم انه كان يعلم جيدا أنه بلا دراية وبلا معرفة بإدارة شؤون الدولة. فقد أمضى هذا الرجل حياته المهنية في الجامعة التونسية كأستاذ مساعد للقانون الدستوري، مكتفيا بذلك، وعازفا حتى عن تحسين مستواه المهني كأن يُعدّ أطروحة في مجال اختصاصه العلمي تخول له أن يحصل على شهادة الدكتوراه. ومعنى هذا أنه يفتقد للحد الأدنى من الطموح، مصرا على أن يظل أستاذا مغمورا إلى أن تقاعد عن العمل. ومعنى هذا أيضا أن الرجل لم يتقلد أية مسؤولية تمكنه من اكتساب تجربة تتيح له النفاذ إلى خفايا الدولة، وتُعلمه أساليب الحكم، وفنونه.

وخلال الحملة الانتخابية، لم يعتمد قيس سعيد على برنامج سياسي واقتصادي واضح، بل اكتفى برفع شعار شعبوي فضفاض "الشعب يريد" ، واعدا التونسيين بأن يكون الحاكم العادل، المقاوم لكل مظهر من مظاهر الفساد، ولكل شكل من أشكال الظلم والاستبداد. وقد طرّز شعاراته ووعوده بخطب فصيحة أكسبته شعبية لدى فئات ضللتها كثرة الأحزاب، وكثرة الأيديولوجيات فما عادت قادرة على تمييز الخطأ من الصواب، ولا الصالح من الطالح. ،إلا أن قيس سعيد لم يفعل إلى حد هذه الساعة أي شيء، ولم يتخذ أي اجراء يدل على أنه قادر على أن يكون ناجعا ومفيدا في مقاومة آفة الفساد ، ومعاقبة من يسعون على ابقائها لتواصل تدميرها وتخريبها للاقتصاد الوطني... لذلك يمكن القول أن قيس سعيد هو رجل الأقوال الفارغة والشعارات الجوفاء. أما على مستوى الفعل فهو رمز العجز والتردد والارتعاش في اتخاذ القرارات الجسيمة الحامية للبلاد والعباد.
وبعد مرور أيام قليلة على تتويجه، ارتكب قيس سعيد خطأ فادحا آخر. فبنصيحة من يوسف الشاهد، رئيس الحكومة السابق المعروف بمناوراته الخبيثة، والذي لم يتردد في خيانة وليّ نعمته، الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ليرتمي في أحضان النهضة، أقال قيس سعيد وزير الدفاع الوطني الدكتور عبد الكريم الزبيدي، ووزير الخارجية السيد خميس الجيهناوي. وقد أقيل الأول لأسباب قد تعود إلى خلافاته المعلنة مع يوسف الشاهد، وانتقاداته الصريحة لمناوراته. أما الثاني فقد أقيل لأنه كان قنصلا عاما في غزة أيام اتفاقية السلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.

وبما أن قيس سعيد أشار في خطاب التتويج بأن تونس في "حالة حرب مع الكيان الصهيوني" بحسب تعبيره ، فإن بقاء خميس الجيهناوي الذي يتمتع بخبرة كبيرة في مجال الديبلوماسية ، بات متناقضا مع التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية التونسية.

وقد كشف هذا الخطأ أن الرئيس قيس سعيد سريع الانقياد للنصائح المضره به، وبمصالح تونس إذ أن اقالة الوزيرين المذكورين جردته من كل قدرة على المناورة، وعلى التصدي للدسائس التي شرع أعداؤه يحيكونها ضده على المستوى الداخلي والخارجي. كما سمح هذا الخطأ الصبياني لحركة النهضة بتوسيع نفوذها، واحكام سيطرتها على الأجهزة الحيوية للدولة سعيا منها لجعل وزارتي السيادة، أي الخارجية والداخلية، في يدها، بهما تفعل ما تشاء وما تريد في هذه المرحلة التي تتحرك فيها تركيا أردوغان لإحياء الخلافة العثمانية في ليبيا، ثم في تونس. في الآن نفسه، أظهر هذا الخطأ أن قيس سعيد مفتون بالإيديولوجيات وبالشعارات الرنانة مثل الطلبة المراهقين، ولا دراية له بالسياسة في جوهرها، وفي معناها العميق.

والغريب أيضا أن قيس سعيد تجنب احاطة نفسه بمستشارين أكفاء في مجالات السياسة الداخلية والخارجية مثلما يفعل كل رؤساء العالم، مستقبلا في القصر شبانا عاطلين عن العمل، معانقا إياهم بحنان ولطف، شاربا قهوته، ومصليا الجمعة في الأحياء الشعبية، ظانا أن كل هذا سيجعل منه الحاكم المثالي... والحال أن هذا السلوك حوّله إلى "مهرج" مثير للسخرية والامتعاض مثلما كان حال الزعيم الليبي المقتول معمر القذافي...

وخلال الأيام الأخيرة التي شهدت فوضى غير مسبوقة داخل البرلمان التونسي، صرح الرئيس قيس أمام راشد الغنوشي ومساعديه أن لديه قرارات لإخماد الفوضى التي تهدد الدولة ومؤسساته تشبه "صواريخ على المنصات"، وأنه سوف يطلقها في اللحظة المناسبة. ولم يفهم التونسيون معنى كلامه الذي جاء كما جرت العادة بلغة ركيكة مفخمة، إلاّ أن غالبيتهم يعلمون أن رئيسهم عوّدهم على أن يقول ما لا يفعل، وأن يكتفي دائما باللمح والترميز، تاركا إياهم في ضلال يعمهون...
ولله في خلقه شؤون وشؤون.