السياسة علم قائم بذاته وإبداع وموهبة، والسياسي الحقيقي بحاجة إلى دراسة الأبجدية السياسية من ألفها الى يائها، إذ ليس كل من كتب خطابا سياسيا أو اصدر بيانا يشيد او يندد بموضوع معين او قرار سياسي يتحول إلى سياسي. السياسي الحقيقي والمتمكن يمتاز بالحنكة السياسية وبحث وتمحيص الأمور والمواضيع السياسية بعمق وروية، واختيار الأفضل منها لتحقيق المصلحة العامة. أما النفخ بالكير وعلو الصوت فهما من صفات المراهقين المتطفلين على علم السياسة وفنونها وما اكثرهم في عالمنا العربي.
المراهق السياسي يهتم بالقشور ولا يعير أي انتباه إلى الجوهر، ويفتقر لموهبة التعمق في الأمور السياسية بمعناها الصحيح. ومن صفاته انه يصغي للشائعات والأكاذيب ويوليهما اهتماما كبيرا ويفسرهما كما يحلو له، محاولا استغلالهما لمصلحته الشخصية.

كما انه يقفز إلى أول عربة دون تفكير او تروي إن كانت تسير في طريق آمن أو وعر. ومهما بلغ من العمر يبقى المراهق السياسي على شبه بالمراهق الشاب في فترة المراهقة التي غالبا ما تتميز بالتسرع والاندفاع وعدم إدراك او تقدير عواقب الأمور. وغالبا ما يكون الإحباط والفشل مصاحبين له لتسرعه في اتخاذ القرارات والإفصاح عن رغباته.

للأسف هؤلاء المراهقون السياسيون – وما اكثرهم - لوثوا سماء واقعنا العربي والمحلي، وعاثوا كثيرا في تدمير نسيجنا الاجتماعي، ولعبوا دورا كبيرا في انسداد أفق المواطن العادي، حتى بات أكثر خوفا وارتباكا.

وفي الوقت عينه امتطوا صهوة محفل هم ليسوا أهلا له، وتسيدوا مشهدا هم أقل بكثير من أن يسيدوه، فلوثوا وشوهوا مفاهيم الديمقراطية والحرية والإصلاح وحق التعبير، لأنهم ببساطة يتحدثون عن تلك المفاهيم، وهم لا يفقهونها وأبعد ما يكونون عنها، لا بل إن بعضهم كان معروفا عنه بعده عن تلك المصطلحات، ويرى أن من يتحدث بها إما كافر أو عميل.

إن التصدي لإدارة مصالح الناس ومستقبل الأجيال القادمة مسؤولية كبرى، والمراهقة السياسية التي نراها تمارس اليوم في اكثر من بلد عربي، سوف تحرق الأخضر واليابس، وتعيد الجميع إلى نقطة الصفر، والمطلوب من الجميع صحوة كاملة، وتغييرا جذريا في السياسات والأشخاص، لكن ذلك لن يحصل أبدا في ظل الثقافة السائدة التي لا تسمح به، ولا تشجع عليه أبدا.

ثقافة تعتبر الحوار البناء والتفاوض وإفساح المجال الآخرين قيما سلبية، بينما ترى في المواجهة والإصرار على المواقف - ولو كانت غير واقعية - وإلحاق الهزيمة بالآخر بطولات عظيمة، وهي بالتالي تخدم مصالحهم الشخصية بعيدا عن مصلحة الوطن والمواطن التي لطالما تبجحوا بها في تصريحاتهم الرنانة أمام عدسات الكاميرات وفي اللقاءات التلفزيونية.

أصبحت هذه الفئات ولا زالت تشكل عقبة كأداء امام مسيرة الأمة في طريق رقيها وتعاليها، بل أدت هذه الممارسات الضيقة الأفق الى ان تهوي الأمة بكل شرائحها وما تمتلكه من قيم ومثل وإنجازات وتاريخ حافل على صعيدي النظرية والتطبيق إلى هوة سحيقة لا يعرفها مداها إلا الله، فكان لا بد من نظرة متعمقة لهذه الفئة التي تلاعبت بمقدرات الأمة وزرعت ثقافة تبريرية للممارسات النفعية في أوساط المجتمع، حتى صارت الوصولية والانتهازية من الآفات التي تنخر في أوساط المجتمع وأسسه ومعولا هداما سينقض على ما تبقى من القيم والمبادئ.

هؤلاء المراهقون والمتسلقون على اكتاف البسطاء يقدمهم البعض عبر وسائل الإعلام باعتبارهم سياسيون محنكين في ممارسة السياسة وفنونها ولهم رؤية ثاقبة ومواقف وطنية، فيما تفاجأ إن قدر لك سماعهم عبر وسائل الإعلام المرئية أو المقروءة بأنهم لا يجيدون قراءة أو تحليل ابسط المستجدات السياسية أبعد من أرنبة أنوفهم، فيتحدثون عن احلامهم وأمنياتهم الشخصية ويحاولون إقناع الآخرين بإمكانية تحقيق هذه الاحلام والأمنيات الغير واقعية، ويتهمون من يخالفهم الرأي بالجهل او معاداتهم، ويرفضون التسليم بالحقائق الواقعة على الأرض، ويعملون على تزييف هذه الحقائق لتطابق رؤيتهم. هؤلاء المراهقون السياسيون هم من سرقوا ربيع العرب، وجعلوه أحمرا قانيا، ولهم نقول: دعوا السياسة لأهلها، ولا تعملوا على تشويه فكرة الإصلاح والحرية، والعدالة والمساواة، والعبوا بعيدا عن الأوطان واستقرارها ومستقبلها.

آخر الكلام: الدول تبدأ بالحكماء ومن ثم تنتهي على أيدي المراهقين من الجيل الثالث او الرابع من نشوء الدول. (ابن خلدون).