تتوالى أسماء القافزين من المركب الغارق تباعاً وسط تهليل شعبي وتعظيم وتبجيل، بينما يكيل الناس الشتائم بمن يتحملون أصعب المواقف مطالبين بإصلاحٍ حقيقي أملاً بالتغيير الجذري.

عجيب أمره هذا اللبناني، إنفجار "بيروشيمي" لم ينقذه من ضياعه، لم يُحدِّد بوصلة نضاله. إنه عالق بهوة أعمق من فجوة نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت.

هذا اللبناني الذي بكى دمار عاصمته، وناشدها "أن تقوم من تحت الردم"، هو نفسه الذي عاث فيها خرابا وتكسيرا خلال احتجاجاته، بينما يستمر اليوم بمهاجمة جميع المسؤولين مساويا بين الجلاد والضحية، بين السلطة المستقوية بالخارج والذين يدفعون ثمن تصديهم لمؤامرات خارجية.

وكأن العقم الفكري مرض لبناني كالحقد، وكأن الذاكرة القصيرة آفة لبنانية عصية إلا على قلة من العقلانيين المخنوق صوتهم وسط النشاز..!

ها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أبلغ نظيره الأميركي "دونالد ترمب أن فرنسا تعتقد بوجود أدلة كافية لافتراض "أن انفجار مرفأ بيروت المدمر الذي وقع يوم الثلاثاء كان (حادثا)".

سمع اللبنانيون صوت الطائرات، لكن آذان المعنيين صُمّت، فطُمِسَت الحقائق، أولاً لأن اسرائيل لا تستطيع تحمل تبعات الضربة بحجم الاضرار والدمار الذي وقع. فهذا قد يورطها في محكمة الجنايات الدولية بتعويضات قد تصل لمليارات الدولارات، وسيُكلفها غضبا دوليا بسحب السفراء منها.

وثانياً لان حزب الله لا يستطيع اتهام اسرائيل بهذه الضربة وهو لا يجروء على الرد عليها إلا "في التوقيت والمكان المناسب". ناهيك عن اضطراره للتهرّب من مسؤولية تخزين نيترات الأمونيوم!

ما يعني أن "الضربة طلعت براس الناس" في انتظار ركوب التسوية على حسابهم! نعم، فالنائب محمد رعد نائب رئيس كتبة الوفاء للمقاومة شارك في الاجتماع مع ماكرون، والأمين العام لحزب الله حسن نصرالله أطل بخطاب هادئ تبرأ فيه من حادثة المرفأ ولم يتهم العدو الاسرئيلي!

وبالتالي، ستتم التضحية بعدد من الرؤوس باتفاق بين العهد وظله على ضمانة أن "لا حرب مع اسرائيل، تثبيت هدنة 1949، وتطوير القرار1701 على أن تبقى وظيفة السلاح دفاعية"، وهو مايردده نصرالله منذ سنوات!

على ما يبدو، التسوية أصبحت على نار هادئة، بينما برز موقف الصرح البطريركي من الكاردينال "الراعي" مطالبا باستقالة الحكومة غاضاً النظر عن فساد العهد وموبقات انحيازه، محملا الحكومة تبعات "زلزال المرفأ"، وقاطعاً فرصة التغيير الجذري من رأس الهرم. تماماً كما حصل في العام 2005 يوم قرر المشاركون بالثورة المليونية _بُعيد اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الشهيد رفيق الحريري_ إكمال طريقهم إلى بعبدا لاسقاط الرئيس الأسبق إميل لحود آنذاك، فتصدى لهم موقف "بكركي"!

وسط غضب الناس، يقف رؤساء الكتل الكبرى أمام مشهد تناثر الاستقالات الفردية التي تُسجّل المواقف مع الثوار فرادة وتمايزا دون أدنى حسابات لنتائج استقالاتهم! فهم بلا شك يكسبون التصفيق والثناء، بينما يحسب الحريصون بوزن كتلهم ألف حساب قبل التخلّي عن مسؤولياتهم. لأن الأهم هو عدم تسليم السلطة التشريعية لفئة واحدة تملك الأكثرية فتتفرد بصياغة قوانين تؤمن لها التحكم بمصير البلاد والعباد.

فرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي طالب بلجنة تحقيق دولية، لا يثق أيضاً بالعهد برمته. وحين سُئِلَ عن جبهة معارضة مماثلة بمرحلة ثورة الأرز، وضع الطابة بملعب القيادات المسيحية و"بكركي" التي تغاضت للمرة الثانية عن مطلب الشعب اللبناني وحرمته مجددا من حلم التغيير تمسكاً بموقعها الماروني المقدس في سدة الرئاسة!

وعليه، يبقى لبنان بين فكّي القداسة والطائفية لقمة سائغة يحاول الشعب سحبها دون قيادة حكيمة. ودون برنامج عمل، فيستمر نضاله المتصدّع تحت شعاره الجائر "كلن يعني كل" في مكابرة مزعجة من المدسوسين الحاقدين حتى على مواقف الزعماء الداعمة للحراك الشعبي الذي لم يحقق منذ انطلاقه في 17 أوكتوبر من العام 2019 ليومنا إلا التكسير وكيل الشتائم للزعماء اللبنانيين!

"الشعب هو مصدر السلطات، فلنذهب الى إنتخابات نيابية مبكرة وفق قانون لا طائفي. وهذا يحتاج الى حكومة حيادية لفترة محددة تُشرِف على هذه الإنتخابات." هذا ما قاله أمين سر كتلة اللقاء الديمقراطي النائب هادي أبو الحسن الذي سأل: "هل نكتفي بتغييرالحكومة والمجلس النيابي فنتوهم بتغيير السلطة؟ أليس لهذه السلطة رأس هرم؟ وهل رأس الهرم هو من المحرمات والمقدسات؟" وهو ما يُذكِّر بتجربة عدم إقالة الرئيس الماروني في العام 2005 وسط تمسك الكتل المسيحية بشخص الرئيس رغم اعتراضهم على أدائه، خوفا على الموقع المذهبي المقدس!

وعليه، فإن سيناريو الاستقالات غير المدروسة يُدمر ولا يُعمِّر. لأن الاستقالة بدون تشكيل جبهة معارضة لن تُفرِغ مجلس النواب من صلاحياته، بل ستُعزز صلاحيات فريق الأكثرية الحاكم، وتمنحه فرصة احتكار التشريع لصالحه، وبالتالي، فإن استقال النواب المعارضون وعددهم 55، فإن المجلس سيحضَّر لانتخابات فرعية.

واذا عاد النواب المستقيلون وترشحوا، فالمعارضة ستحصل بأحسن الأحوال على نفس عديد المقاعد وهي 55.
وفي حال لم تترشح المعارضة مجددا، ستحصل الموالاة الحاكمة على اغلبية المجلس. وهنا يكمن الخطر الكبير على لبنان. لأن حصول الموالاة على ثلثي اصوات المجلس يعني امكانية تعديل الدستور. وهو ما يشكل خطر إجراءات تعديلات أهمها:

1- التمديد لولاية رئيس الجمهورية الحالي. وأيضاً تمديد ولاية مجلس النواب

2- تشريع سلاح حزب الله نهائياً رسمياً كما هو حال "الحشد الشعبي العراقي".

بالاضافة إلى عدة تعديلات تُمكنّهم من الاستيلاء على كافة مقومات االحكم عبر التعيينات المزاجية في وظائف الفئة الأولى والثانية في الدولة اللبنانية!

رئيس اللقاء الديمقراطي النائب تيمور جنبلاط قالها اليوم: "المطلوب هو تقصير ولاية مجلس النواب والعمل على قانون لا طائفي يسمح للشباب الذين هم في الساحات بالوصول الى المجلس وان يشاركوا بالحياة السياسية وان يبنوا عقدا اجتماعيا سياسيا جديدا بين اللبنانيين".

أما الحكومة، فستهرب باستقالتها من محاسبتها وطرح الثقة بها في مجلس النواب!

فهل يدرك اللبنانيون أن الاستقالات الفردية، استعراضية عبثية تُفرغ مطالب الناس من إمكانية تحقيقها؟

في المحصلة، لبنان يحتاج لقرار جريء من بكركي والقوى المسيحية، لكنهم للأسف على تضاد مواقفهم يكررون الخطأ التاريخي بعدم اسقاط رئيس الجمهوربة الماروني وبالتالي، سيسقط رئيس الحكومة السني ويبقى النظام الطائفي المهترئ_ كما جرت العادة!

للأسف الاستقالات الفردية تحصل تحت شعار اللهم أنا، وبكركي تكرر الخطأ وتخذل لبنان!