كانت صحيفة "السفير"، التي كانت قد غابت مثلها مثل غيرها لضيق ذات اليد، تصدر خلال حصار بيروت بصفحتين الأولى يتصدرها "كاريكاتير" المبدع ناجي العلي الذي خسره شعبه في مرحلة كانت في غاية الصعوبة وهي لا تزال في غاية الصعوبة وحقيقة أن قائد فريق التحرير كان الأستاذ الكبير محمد مشموشي وكان المحررون إثنان أحدهما كان متطوعاً هو فيصل الحوراني والثاني هو العبد الفقير لله صالح القلاب الذي لم يغب عن التمترس في خندقه الصحافي ولو للحظة واحدة.. إلا بعد مغادرته بلا عودة في السفينة "الدولية" التي غادر فيها القائد العظيم ياسر عرفات (أبوعمار) إلى اليونان ثم إلى تونس ثم إلى "فاس" في المغرب.. ثم إلى ديار الله الواسعة من صنعاء إلى عدن.. وإلى عمان..وإلى بغداد..وإلى طرابلس اللبنانية.. ثم إلى غزة هاشم ومنها إلى رام الله التي كان قد حوصر فيها إلى أن إنتقل إلى باريس ومنها إلى جوار ربه.. رحمه الله.

لقد عادت بي هذه الذكريات إلى تلك الفترة التاريخية التي كانت بدأت فيها متغيرات تاريخية كثيرة عندما شاهدت زلزال مرفأ بيروت وقبة إنفجاره النووي.. كانت القوات الإسرائيلية الغازية تطل على ميناء العاصمة اللبنانية من الأشرفية ومن ما هو أقرب منها بمحاذاة "بيت حزب الكتائب" وكان المودعون للقائد الفلسطيني الكبير كل رموز الحركة الوطنية اللبنانية ومعهم بعض الرؤساء السابقين الذين كانوا قد عاشوا هم أيضاً مع "أبوعمار" كل أيام وليالي فترة الحصار الطويلة.

وقد لاحظت وأنا أدقق في ردود أفعال المودعين أنّ محسن إبراهيم، الذي كان قد إنتقل إلى جوار ربه قبل أسابيع قليلة، كان أكثرهم تأثراً وأنه دأب على إزاحة
دموعه الصادقة من عينيه طوال فترة إنتظار مغادرة السفينة التي غادر بها "أبوعمار" العاصمة اللبنانية.. عاصمة الفترة الفلسطينية الصعبة والجميلة والمعطاءة والصمود الأسطوري والصواريخ والقنابل الإسرائيلية التي كانت تطارد قائد الشعب الفلسطيني من ملجأ عميق الغور إلى آخر أكثر منه عمقاً وخلال مرحلة لا يعرف صعوبتها وأهميتها.. وجمالها إلا من عاشها وكان في المقدمة المبدع الفلسطيني الشاعر العظيم محمود درويش رحمه الله.

كنا..أحمد عبدالرحمن ونبيل عمرو وآخرون وأنا قد تركنا "أبوعمار" ليختلي بنفسه في الطابق الغاطس في مياه البحر الأبيض المتوسط من السفينة التي بقي رحمه الله يقف فوقها.. بينما كانت بيروت "الحبيبة" تبتعد عنه رويداً.. رويداً إلى أن لم يبق من المشهد اللبناني إلاّ الجبال الشاهقة المرتفعة الجميلة التي لوح لها مودعاً.. وهو يتفادى رؤية أياًّ منّا لدموعه التي كانت عنوان وداع هذا القائد العظيم لهذا البلد الذي أحبه كما يحب فلسطين ومتأكداً أنه لا لقاء بعده بهذه العاصمة التي أحبها كما كان يحب القدس والتي حوصر فيها قبل مغادرتها على مدى أيام وليال بقدر ما كانت جميلة كانت مرعبة ومخيفة.

كان "أبوعمار"، رحمه الله، قد قرر أن أكون معه إلى "قمة فاس" المغربية التاريخية وكان في إنتظاره في مطار هذه المدينة التاريخية الجميلة حقاً بالطبع الملك الحسن الثاني، رحمه الله، وكل الملوك والقادة العرب بإستثناء الرئيس السوري حافظ الأسد.. وكنت عندما إتجه الحسن الثاني و"أبوعمار" لإستعراض حرس الشرف قد أخطأت الطريق إلى السيارات التي كانت في إنتظارنا لنقلنا إلى الفندق الذي سينزل فيه أبوعمار.. ووجدت أنني أدخل قاعة الشرف التي كان القادة العرب ينتظرون فيها القائد الفلسطيني.. ووجدت نفسي أمام الإنسان الطيب والقائد العظيم حقا الملك حسين بن طلال أمطر الله تربته بشآبيب رحمته.. فمددت يدي لأصافحه وأنا أقول له: "يا سيدنا..أنا إسمي: "صالح القلاب" فقال: يعني أنت من أبنائنا .. أنت أردني .. قلت له: "نعم يا سيدي" أضاف: أنت مع (أبوعمار)..قلت: "نعم يا سيدي" نظر إلى من يقفون إلى جانبه من القادة العرب وقال: إنّ هذا الشاب..أحد أبناء قبائلنا الأردنية.. إنه مقاتل في الثورة الفلسطينية.. يا صالح عندما تأتي إلى عمان.. أريد أن أراك..قلت: بارك الله فيك يا مولانا.. لقد كانت لحظة تاريخية وتأكدت وأنا كنت معارضاً متشدداً.. إن مثل هذا القائد العظيم يجب ألاّ نعارضه.. يجب أن نكون معه وإلى جانبه.. وهذا هو ما حصل في حقيقة الأمر بعد ذلك.