في العلوم الاستراتيجية، يبقى امتلاك القوة وكيفية توظيفها في ردع الخصوم والمنافسين الاستراتيجيين، أحد أهم عوامل اثبات الهيبة والحفاظ على مكانة الدول ومصالحها الحيوية في مناطق النفوذ والتنافس والصراعات الاقليمية والدولية. وفي الحالة الأمريكية تحديداً، لا يجادل أحد من المتخصصين في التفوق العسكري الأمريكي الكاسح على المستويات التقليدية وغير التقليدية مقارنة ببقية الدول والقوى الكبرى؛ فالانفاق العسكري الأمريكي قد زاد في عام 2019، بحسب تقاريرمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام "سيبري".، بنسبة 3ر5 % ليصل إلى 732 مليار دولار، أي مانسبته 38% من إجمالي الانفاق العالمي على التسلح، ومايفوق مجمل الانفاق العسكري للقوى الثماني التالية للولايات المتحدة في حجم الانفاق، وهذه الزيادة في عهد الرئيس ترامب تحديداً تعود إلى تنفيذ برامج جديدة لشراء الأسلحة.

الاحصاءات تقول أن انفاق الصين التي تأتي في المرتبة الثانية عالمياً يبلغ 261 مليار دولار، وهذا الفارق الهائل في حجم الانفاق العسكري يعكس كذلك الفوارق في ميزان القوى العسكرية والاستراتيجية بين القوتين من الناحية الشكلية أو الرقمية بالأساس، لأن هذه الفوارق ليست قاطعة ولا حاسمة في تقدير حسابات التفوق العسكري بنظر الكثير من الخبراء والمتخصصين في ظل تداخل حسابات القوة وتأثير القدرات التسليحية غير التقليدية للدول في حسم الصراعات والحروب.

إحدى معضلات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للصراع مع ملالي إيران أنه يتجاهل ضرورة ترسيخ هيبة الولايات المتحدة واقناع الخصوم بامكانية اللجوء للقوة حال تطلب الأمر ذلك، فالردع لا يتحقق بتكرار الاشارة إلى حجم الانفاق العسكري الأمريكي كما يفعل الرئيس ترامب عادة في تغريداته على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، حين يذكر الملالي بأن الولايات المتحدة هي الأكثر انفاقاً على القوة العسكرية في العالم، رغم ان هذا التذكير ليس له فاعلية سياسية تذكر باعتبار أن مثل هذه الأرقام والمؤشرات موجودة بالفعل ويدركها الجميع، ولذا فالأهم من ذلك في مثل هذه المواقف هو تحديد موقف البيت الأبيض من ظروف ومعايير وضوابط استخدام هذا التفوق العسكري الكاسح، او مايمكن تسميته بتحديد الخطوط الحمراء للجوء إلى القوة العسكرية في الأزمات.

المؤكد أن الرئيس ترامب يعرف تماماً اهمية التلويح بالعصا في ظروف معينة لردع الأعداء، ولكنه لا يلجأ لمثل هذه الأدوات في الردع، بل يفعل عكسها تماماً حين يحرص في كثير من المناسبات على تأكيد الرفض المطلق لخوض حرب أو إرسال قوات أمريكية إلى مناطق الصراع في الشرق الاوسط على وجه التحديد، والمسألة هنا تعني بوضوح رفضه توجيه ضربة عسكرية ضد ملالي إيران.

مؤخراً، وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قرار واشنطن بإرسال قوات إلى الشرق الأوسط، والتدخل في النزاعات المندلعة في تلك المنطقة، بأنه أكبر خطأ في تاريخ البلاد، وقال ترامب في مقابلة : "كان قرار إرسال قوات إلى منطقة الشرق الأوسط، وزجها في صراعات الشرق الأوسط، هو أعظم خطأ في تاريخ بلادنا. هذه وجهة نظري". هذا الحديث ليس طارئاً على مواقف الرئيس ترامب، الذي يؤكد مراراً أن الولايات المتحدة تعتزم إنهاء سياسة "الحروب التي لا نهاية لها"، وتسعى إلى إقامة شراكات مع دول العالم بدلا من التنافس والتناحر معها.

الحقيقة أنه لا أحد يطالب الولايات المتحدة بخوض صراعات عسكرية مع نظام الملالي أو غيرهم في منطقتنا والعالم، ولا أحد يرغب في نشوب حروب أو صراعات عسكرية نعرف جميعاً عواقبها المدمرة وفاتورتها المدمرة بشرياً واقتصادياً، ولكن المؤكد كذلك أن انحسار مستوى الردع لأي قوة عسكرية مهما كان تفوقها يغري الآخرين بتجاوز الأدوار وتحطيم قواعد اللعبة في مناطق المصالح الاستراتيجية المشتركة، وربما استغلال هذه المواقف الانسحابية من مسارح العمليات التقليدية للقوى الكبرى في تحقيق أهدافهم وتنفيذ أطماعهم في مناطق النفوذ سواء على حساب القوى الكبرى أو على حساب دول وشعوب أخرى.
دائماً ما كانت الدبلوماسية الأمريكية في كل العصور قائمة على بناء توازن دقيق بين "العصا" و"الجزرة"، وفي فترة رئاسة ترامب لا يمكن بطبيعة الحال القول بأن الإدارة الأمريكية تفتقر إلى استراتيجية محددة وواضحة للردع العسكري والاستراتيجي في مواجهة الخصوم والأعداء، ولكن الحاصل أنه يراهن تماماً على سلاح العقوبات لتحقيق الفاعلية ذاتها التي تحققها القوة العسكرية، وهو رهان لم يثبت فاعليته في حالات عدة منها حالة ملالي إيران!

نظام الملالي قائم على مجرد الاستمرار والتشبث بالسلطة والسعي لتحقيق مشروعهم الطائفي، ولا يمتلكون مشروعاً تنموياً يمكن أن يتأثر فعلياً بالعقوبات مهما بلغت قسوتها وصرامتها، وبالتالي فهم سعداء بحصر الرؤية الاستراتيجية الأمريكية في التعاطي معهم في خيار العقوبات دون اللجوء للقوة العسكرية. وبرأيي، فإن احجام الرئيس ترامب عن مجرد التلويح باستخدام القوة في مواجهة الاضرار بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في مناطق نفوذها التقليدية، كان أحد العوامل التي شجعت الهيمنة الاقليمية لدول مثل إيران وتركيا على اثارة الفوضى ونشر الاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط، فـ"السلطان" التركي أصبح عبئاً على الولايات المتحدة، والملالي حطموا قواعد اللعبة ولم يفلح الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي والعقوبات القاسية في ردعهم.