لا بد وان حركة النهضة الإسلامية نادمة الآن اشد الندم على خيارهما تعطيل إرساء المحكمة الدستورية بسبب سياسة المماطلة والمخاتلة والمراوغة التي اتبعتها خلال العهدة البرلمانية الماضية. كانت الحركة الإسلامية تراهن على كسب الوقت حتى تُكوّن اغلبية برلمانية تستطيع بفضلها السيطرة على المحكمة الدستورية. لكن في عالم السياسة الرياح لا تجري دائما بما تشتهي سفن الأحزاب وقادتها، لأنه بالإضافة الى العوامل الداخلية توجد ظروف واكراهات خارجية قد تُغيّر من مجرى الأمور بين ليلة وضحاها، وهو ما حدث فعلا في تونس.

تُوفي الرئيس السابق الباجي قايد السبسي دون ان يُوقع على مشروع قانون تمت صياغته على مقاس كل من حركة النهضة وحركة تحيا تونس ومُؤسسه يوسف الشاهد الذي انقلب على الباجي قائد السبسي. كانت الغاية من القانون هو اقصاء كل المنافسين الجدين من سباق التشريعية والرئاسية لسنة 2019.

بعثرت وفاة الباجي قائد السبسي كل الأوراق و الحسابات، واضطرت البلاد الى اجراء انتخابات رئاسية سابقة لأوانها ثم تشريعية افرزت مشهدا سياسيا جديدا تميز بصعود كل من المرشح المستقل آنذاك قيس سعيد والحزب الدستوري سليل الحزب الحاكم قبل الثورة بقيادة اشد المعارضين لحركة النهضة عبير موسي، ومن هنا بدأت متاعب النهضة.

حاولت النهضة في البداية احتواء الرئيس قيس سعيد والسيطرة على الحكومة بترشيح أحد المُقربين منها لرئاسة الحكومة لكنه فشل في نيل ثقة مجلس النواب فعادت المبادرة في اختيار رئيس الحكومة للرئيس التونسي. كانت هذه هدية غير متوقعة من الحركة الإسلامية للرئيس الذي لم ينتظر طويلا ليبدأ في تنفيذ برنامجه القائم أساسا على مُسلمة انتهاء دور الأحزاب في إدارة الشأن العام. وفي حقيقة الأمر وطوال العشر سنوات الأخيرة، لم تَدخِر الأحزاب التونسية، جهدا في الكشف عن فشلها على كل الأصعدة لتصبح بذلك العنوان الأبرز للأزمة الهيكلية التي تعيشها تونس.

كنا كتبنا منذ مدة هنا في ايلاف، ان الصراع بين حركة النهضة والرئيس التونسي هو صِراع حقيقي و ليس مُجرد اختلافٍ في وجهات النظر كما روّجت له حينها قيادات بارزة في الحركة الإسلامية. هذا الصراع دفع مؤخرا كتلة حركة النهضة في البرلمان الى الدعوة في التسريع لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية لتسحب آلية تأويل الدستور من بين يدي الرئيس التونسي. لكن بعد ماذا؟

في غياب المحكمة الدستورية التي عطلت ارساءها حركة النهضة نفسها لمدة خمس سنوات، وجد قيس سعيد نفسه سيدا على الدستور يُؤوله كما يشاء ولا شيء دستوريا يمنعه من ذلك. في الجبهة الأخرى وتحديدا تحت قبة البرلمان شنّت رئيسة الحزب الدستوري حربا بلا هوادة على الحركة الإسلامية كادت ان تعصف برئيس المجلس ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي من رئاسة المجلس. هكذا وجدت حركة النهضة نفسها بين فكي كماشة الرئيس والحزب الدستوري الذي اصبح يحتل المرتبة الأولى في نوايا التصويت. هنا تحولت متاعب النهضة الى كابوس ما فتئ يكبُر لأن الرئيس قرر وبحسب تأويله للدستور ترشيح رئيس حكومة جديد من خارج المنظومة الحزبية.

حتى تكتمل ملامح الصورة في هذا السرد التاريخي السريع، قرر رئيس الحكومة المكلف تشكيل حكومة كفاءات مما يعني اخراج الأحزاب من المعادلة الحكومية وهذا يؤدي ببساطة الى خروج حركة النهضة من الحكم لأول مرة منذ عشر سنوات. ربما لا تستقيم هذه المعادلة سياسيا لأننا في نظام برلماني يشترط ان تكون الحكومة متحزبة وتعكس الأوزان الحقيقية للأحزاب داخل البرلمان، لكن لو تعمقنا اكثر في استقراء الأحداث الأخيرة لاكشتفنا اننا نعيش فعليا في مرحلة ما يمكن ان نصفه، بكسر العظام بين الرئيس التونسي الذي لم يُؤّمن يوما بالمنظومة الحزبية الحالية، و بين حركة النهضة التي تعتبر ان هذا سيؤدي الى الإنحراف على المسار الديموقراطي و على نتائج الانتخابات.

هذه اللخبطة السياسية كشفها تقرير المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية التي اكدت بأن غياب المحكمة الدستورية أدى الى انعكاسات سلبية على سيرورة الحياة السياسية في تونس فلم يتم البت في النزاعات المتعلقة باختصاص كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة لان المحكمة الدستورية هي الطرف الوحيد الذي يمكنه البت في تنازع الاختصاص بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.

كان يمكن للمحكمة الدستورية إذن،ُ لو كتب لها الولادة قبل خمسة أعوام كما ينص عليه الدستور التونسي، ان تحسم الجدل في العديد من القضايا المطروحة على الساحة السياسية التونسية، آخرها مسألة اختيار رئيس حكومة من خارج المنظومة الحزبية، لكن هكذا هي السياسة كما الطبيعة تأبى الفراغ،وحتى وان "أكلت حركة النهضة أصابعها" ندما، كما يقول المثل فإن الندم في حالات عديدة ،كما هو الحال في عدم إرساء المحكمة الدستورية، قد لا ينفع.