لا يختلف اثنان من المراقبين على مستوى الدعم التاريخي الذي تقدمه دولة الامارات للقضية الفلسطينية، فالامارات كانت منذ عهد القائد المؤسس المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وستبقى دائماً في صدارة الداعمين العرب للشعب الفلسطيني، وذلك انطلاقاً من مبادئها الأصيلة وإيمانها بحتمية الدفاع عن مصالح الشعوب العربية وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، لذلك فإن الحفاظ على المصالح الاستراتيجية الفلسطينية هي أحد أبرز الشواغل الاستراتيجية التي تهم القيادة الرشيدة لدولة الامارات، وهناك جهود إماراتية دؤوبة للحفاظ على هذه المصالح بشتى السبل والوسائل، ولا تنظر الامارات في ذلك إلى المزايدات والشعارات الرنانة التي يطلقها تجار السياسة سواء من تنظيمات التطرف والارهاب، أو من الأنظمة الممولة لها عربياً.

ومن هذا المنطلق يمكن فهم الاعلان التاريخي الصادر بشأن الاتفاق الاماراتي ـ الاسرائيلي، الذي يعد إنجازاً سياسياً تاريخياً نجح من خلاله صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في التواصل مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو والاتفاق على تجميد القرار الاسرائيلي بشأن ضم الأراضي الفلسطينية، في تحرك إماراتي شجاع وايجابي وخطوة نوعية اختراقية تستثمر الامارات فيها جهودها وقدراتها وأدواتها السياسية والدبلوماسية من أجل تحقيق مصالح الشعب الفلسطيني ووقف هذا القرار الاسرائيلي الذي كاد يطلق رصاصة الرحمة على حل الدولتين، الذي كان ولا يزال، يمثل الأمل السياسي الوحيد لاقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشريف.

من المعروف أن معظم دول العالم قد رفضت قرار الحكومة الاسرائيلية بشأن ضم الأراضي الفلسطينية، وقد أعلنت الامارات موقفها إزاء هذا القرار منذ لحظة صدوره، حيث أعرب صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في اتصال هاتفي مع العاهل الأردني وقتذاك، عن قلق الامارات البالغ إزاء الخطوة الاسرائيلية، كما أعرب ممثل الامارات معالي د. أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية، في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري، عن موقف دولة الامارات، التي اعتبرت القرار الاسرائيلي يمثل تطوراً خطيراً يعرقل مسار عملية السلام، ويقوّض الجهود الدولية لحل الصراع العربي – الإسرائيلي، واعتبرت دولة الإمارات أن فرض السيادة الاسرائيلية على مناطق بالضفة الغربية المحتلة أمر غير مقبول، ويخالف القوانين والقرارات الدولية، ويعرقل مسار عملية السلام، وأكّدت أن "هذه الخطوات من شأنها المساس بالحقوق التاريخية والراسخة للشعب الفلسطيني، والمنصوص عليها في قرار مجلس الأمن رقم 478 لعام 1980"، محذّرة من تداعياتها "الخطيرة في تقويض فرص السلام، وتغذية وتيرة النزاعات والتطرف والإرهاب في المنطقة".

ورغم كل الجهود الدولية والعربية التي استهدفت رفض القرار الاسرائيلي، فإن الحكومة الاسرائيلية لم تتراجع عن عزمها ونواياها في هذا الشأن، لذا اتجهت الامارات إلى طريق بديل سعت من خلاله إلى التفكير خارج الصندوق، واستثمار علاقاتها المتينة مع الإدارة الأمريكية في اقناع الحكومة الاسرائيلية بتجميد قرارها، وإبعاد الخطر الذي يواجه عملية السلام برمتها، حيث كان قرار الضم بمنزلة إعلان وفاة اكلينيكية لهذه العملية بما جعل من ضرورة ابتكار حل دبلوماسي من خارج الصندوق مسألة حتمية، لاسيما في ظل عجز جميع الأطراف عن لعب دور مؤثر يثني الحكومة الاسرائيلية عن قرارها، الذي كانت ترى أن تنفيذه في الوقت الراهن مسألة لا حياد عنها ولا تراجع باعتبارها "فرصة مثالية سانحة" كما عبر عن ذلك المسؤولون الاسرائيليون أكثر من مرة.
بواقعية شديدة، كانت اسرائيل ترى في اللحظة العربية الراهنة انسب فرصة لتحقيق هدف ضم الأراضي الفلسطينية رسمياً خصوصاً في ظل الدعم الأمريكي المطلق لهذا القرار، ولأن الامارات تدرك أن المواقف الانسحابية السلبية في مثل هذه الأزمات المعقدة لا تقدم ولا تؤخرا، بل تزيد الطين بلة، وتجلب المزيد من المعاناة للشعوب المتضررة من فشل السياسات وغياب البدائل والحلول الدبلوماسية، ولأن الامارات أكثر الأطراف العربية إدراكاً لمايعانيه الواقع والنظام الاقليمي العربي المأزوم من معضلات وتحديات منذ تفشي الفوضى والاضطرابات في منطقتنا العربية بفعل ما يسمى إعلامياً بـ "الربيع العربي" في عام 2011، ولأنها أيضاً تنحو دوماً للتصرف بشكل ايجابي تفاعلي مع جذور الأزمات والمشكلات من دون ضجيج أو مزايدات وبعيداً عن الشعارات والهتافات العنترية، فقد قررت استثمار دورها وعلاقاتها القوية مع الولايات المتحدة في اقناع الجانب الاسرائيلي بتجميد القرار بما يحقق مصالح أطراف عملية السلام جميعها ويمنح عملية السلام جرعة اوكسجين كبرى تبقيها على قيد الحياة.

لاشك أن قرار الامارات بالتوجه نحو خلق واقع جيوسياسي جديد يحافظ على عملية السلام وفرص الشعب الفلسطيني في اقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، يعبر عن وعي استراتيجي عميق للمخاطر التي كانت ستنجم عن ضم الأراضي الفلسطينية، والذي كان سيضيف للمنطقة متغيراً جديداً يفاقم اجواء الاحتقان والصراعات ويمنح تنظيمات التطرف والارهاب والأنظمة الداعمة لها الفرصة والمجال لاستمرار النفخ في نار الفتن والحروب والصراعات والمؤامرات، لذا فقد اختارت الامارات الطريق الأصعب وهو طريق المشي على دروب الأشواك وتحمل الصعاب بقرار تاريخي استباقي يعكس تحمل الامارات لمسؤولياتها القومية بشجاعة وإصرار.