لم تحظ ملحمة إنسانيّة في التاريخين: القديم والحديث، بِمثل ما حظِيت به ملحمة الاستشهاد في كربلاء، من إعجاب ودرس وتعاطف، فقد كانت حركة على مستوى الحادث الوجداني الأكبر لأمّة الإسلام بتشكيلها المنعطف الروحي الخطير الأثر في مسيرة العقيدة الإسلامية، والتي لولاها لكان الإسلام مذهبا باهتا يُركَنُ في ظاهر الرؤوس، لا عقيدة راسخة في أعماق الصدور، وإيمانا يترعرع في وجدان كل مسلم. لقد كانت "كربلاء" هزّة، وأيّة هزّة، لقد زلزلت أركان الأمّة مِن أقصاها إلى أدناها، ففتّحت العيون، وأيقظت الضمائر على ما لسطوة الإفك والشر من اقتدار، وما للظلم من تلاميذ على استعداد لزرع ذلك الظلم في تلافيف الضمائر، ليغتالوا تحت سُتُرٍ مزيّفة قيم الدِّين، وينتهكوا حقوق أهليه.

هي ثورة بدأت ساخنة، واستمرّت محافظة على سخونتها طالما ثمّة ظلم فوق هذا الكوكب، وطالما ثمّة فساد في الحكم، وطالما ثمّة عبثٌ في العقائد. وهي ثورة لم ولن تبرد أبدا، بل هي في غَليان دائب سيّما في هذا العصر، عصرِ الضَّنك والظلم والاضطهاد والترويع لشعوب كثيرة، حيث انتُهِكت الحريّات، وبان جليّا العبثُ في العقائد والأديان، بل واستغلال هذه الأديان في تثبيت المفاسد والانتهاكات البشريّة. فالحسين ثار من أجل الحق، والحقُّ لكل الشعوب. والحسين ثار من أجل مرضاة الله، وما دام الله خالق الجميع، فكذلك ثورة الحسين لا تختص بأحدٍ معيّن، بل هي لكل خلق الله، المظلومون والمضطهدون والمقهورون والمروَّعون من كل الأديان المذاهب والبقاع، يتوجّهون في كل رغباتهم إلى جوهر ثورة الحسين، ففي اتّجاههم الفطري ورودٌ إلى منبع الكرامة والإنصاف والعدل والأمان. وما دامت قد تعيّنت ماهيّة ثورة الحسين بهذه المعاني، أفلا يَجدر اعتبار الحسين شهيداً: للإسلام والمسيحيّة واليهوديّة، ولكلّ الأديان والعقائد الإنسانية الأخرى.

ألم يَعُوا كيف تحوّلت هذه الملحمة العظيمة "ملحمة كربلاء" بتقادم العهد عليها إلى مسيرة، وكيف صارت الشهادة التي أقدَم عليها الحسين "عليه السّلام وآلُ بيته وصحبُه الأطهار"، إلى رمزا للحق والعدل، وكيف صار الذبيح بأرض كربلاء، مناراً لا ينطفئ لكل متطلّعٍ باحث عن الكرامة التي خصّ بها سبحانه وتعالى خلقَه بقوله: « ولَقَد كرَّمْنا بَني آدَمَ ». والسيرة العطرة لحياة سيّد شباب أهل الجنّة واستشهاده الذي لم يُسجِّل التاريخ شبيهاً له، كان عنواناً صريحا لقيمة الثبات على المبدأ، وعظمة المثاليّة في أخذ العقيدة وتمثُّلِها، فغدا حبُّه كثائر واجباً علينا كبشر، وحبُّه كشهيدٍ جزأ من نفثات ضمائرنا. فقد كان "الحسين" شمعة الإسلام، أضاءت ممثلة ضمير الأديان إلى أبد الدهور. وكان درعاً حمى العقيدة من أذى مُنتهكيها، وذبَّ عنها خطر الاضمحلال، وكان انطفاؤه "أي شهادته" فوق أرض كربلاء مرحلة أُولى لاشتعالٍ أبدي، كمَثل التوهّج من الإنطفاء، والحياة في موت.
آخر الكلام: الحسين صورة لحلقة متصلة في تلك السلسلة من التاريخ الإبراهيمي ويجب أن تُفهم تلك الصورة، بل وأن تكون، على هذا الأساس. وما من شك في أن طرح قضية الحسين معزولة عن ترابطها التاريخي، وبالتالي إعطاء معركة كربلاء صورة الحادثة العابرة، يؤدي إلى تجريدها من أسسها التاريخية ودوافعها الاجتماعية ومن ثم إفراغها من مضامينها الأساسية واستمراريتها المتجددة، لنجعل منها، وهذا ما حدث، مجرد واقعة مأساوية لا نملك أمامها إلا أن نبكي، كما نبكي اليوم. لنستنتج من كل ذلك أن فصل الحسين وقضيته عن الجذور التاريخية للمدرسة العقائدية التي أنبتتهما هو بمثابة بتر عضو في جسم حي، لدراسته أو الاحتفاظ به. "الدكتور علي شريعتي".

أيُّها القاتلون "جهلاً" حسيناً أبشِـروا بالعـذابِ والتنكيـلِ
قد لُعِنتُم على لسـان ابـن داودَ وموسى وصاحبِ الإنجيلِ
المصدر: كتاب الحسين في الفكر المسيحي. "أنطوان بارا".