لم يصدر عن دولة الامارات العربية المتحدة منذ الاعلان عن التوصل إلى اتفاق لاقامة علاقات ثنائية مع اسرائيل، ما يفيد بأن هذا الاتفاق يعد القضية الفلسطينية بتسوية سلمية نهائية، أو بالأحرى سينهي الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية، بل تم التأكيد على أنه خطوة مهمة لـ"شراء الوقت" وفتح ثغرة في جدار الجمود الذي يخيم على واقع القضية ومستقبلها. ولأن الاختراق الدبلوماسي الاماراتي قد وضع القادة الفلسطينيين أمام خيارات تتطلب قرارات شجاعة، فإنه اختاروا اللجوء إلى تكتيك المراوغة واغراق الجميع في نقاشات جدلية عقيمة حول ما تضمنه الاتفاق الاماراتي الاسرائيلي من مفاهيم ومصطلحات!
يتحدث الرسميون الفلسطينيون عبر وسائل الاعلام ـ على سبيل المثال ـ عن فارق بين النسختين الإنجليزية والعربية من البيان الثلاثي الصادر في ختام زيارة الوفد الإسرائيلي الأمريكي للإمارات مؤخراً، والجدال يتمحور حول حقيقة تخلي تل أبيب عن ضم الأراضي الفلسطينية، حيث يتحدث بعض المسؤولين الفلسطينيين عن أن النسخة الانجليزية للبيان قد ذكرت أن اتفاق اقامة العلاقات : "أدى إلى تعليق خطط إسرائيل لبسط سيادتها على أراض في الضفة الغربية"، وأن النسخة العربية التي نشرتها "وكالة أنباء الإمارات" قالت إن الاتفاق أدى "إلى وقف خطط ضم إسرائيل الأراضي الفلسطينية".
وفي ذلك، طلب صائب عريقات الأمين العام لمنظمة التحرير الفلسطينية في تعليق على "تويتر" من متابعيه أن يقارنوا بأنفسهم بين النسختين مشددا على الفرق بين كلمتي وقف وتعليق، ورداً على ذلك أكد رئيس إدارة التخطيط السياسي والتعاون الدولي بوزارة الخارجية الإماراتية، "أن الفرق في الصياغة مسألة ترجمة فحسب"، وقال للصحفيين: "إذا كان أحد يستطيع أن يأتي بمفردة أفضل من إيقاف للكلمة الإنجليزية موضع الخلاف فليتفضل"، مؤكدا أن أحد شروط بدء العلاقات الثنائية "كان وقف الضم".
التوضيح الاماراتي الرسمي لم يقنع أيضاً الجانب الفلسطيني، حيث قالت حنان عشراوي إنه محاولة "مضللة" للتأثير في الرأي العام العربي"، وقالت في تصريح لـ"رويترز": "لا أعتقد أنها مشكلة ترجمة بل أعتقد أنها وسيلة غير أمينة للتلاعب بالخطاب"، وأضافت أن الترجمة العربية وسيلة لتضليل الرأي العام العربي بالقول إن الإمارات نجحت في وقف ضم الأراضي في حين أن ما حدث هو مجرد تعليق.
وهناك نقطتان مهمتان في التعليق على هذا الجدال الفلسطيني اللا منطقي، أولهما تتعلق بمرجعية القرار الاماراتي، وفي هذا الإطار أكدت دولة الامارات أن قرار اقامة العلاقات مع إسرائيل هو قرار سيادي، والجميع يعلم أن القرارات السيادية للدول لا تتطلب مبررات وأسانيد كي تقنع أطرافاً أخرى، ومع ذلك فإن الامارات قد انطلقت في موقفها من توظيف ما تمتلكه من معطيات وهامش حركة سياسي ودبلوماسي لتحريك المياه الراكدة تماماً والجمود الذي هيمن على المسار التفاوضي الذي كان ميتاً من الناحية الفعلية والواقعية، وكان الحديث الرسمي الاماراتي في هذا الشأن واضحاً، حيث أكد د. أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية أن إبرام اتفاق التطبيع مع إسرائيل كان مطلوبا لإنقاذ حل الدولتين، و"شراء الوقت" لاستئناف التفاوض بين تل أبيب والفلسطينيين.
وقال قرقاش "كانت قضية الضم بمثابة قنبلة موقوتة تستدعي قلق الجميع، ولذلك قمنا بإزالتها عن الطاولة واشترينا الوقت". وهذا حديث واضح يشير إلى أنه تحرك دبلوماسي تكتيكي يستهدف تحقيق مصالح الجميع شريطة أن يتحرك الطرف المعني بالقضية (الفلسطينيين) لاستغلال الظروف الجديدة التي لا يجب أن نتجاهل أنها ستجعل الجانب الاسرائيلي أكثر حذراً في الضغط على الفلسطينيين ولا نقول ـ بموضوعية ـ خشية من رد فعل فلسطيني أو عربي معين، ولكن نقول طمعاً في التقارب مع المزيد من الأصدقاء العرب في المنطقة بما يعنيه ذلك من مكاسب استراتيجية لإسرائيل.
وهنا يجادل البعض ويتساءل: لماذا تعرض الامارات نفسها للحرج السياسي وهي ليست من القوى العربية الرئيسية المعنية بالصراع العربي الفلسطيني، وهنا لابد من الرد انطلاقاً من فهم الواقع الجيوسياسي العربي الراهن، وعمق الأزمة التي يعانيها النظام العربي الرسمي منذ اضطرابات عام 2011، ودور السعودية والامارات الفاعل في التصدي للانهيارات المتوالية التي تتعرض لها الدولة الوطنية في العالم العربي، والفاتورة الباهظة التي تحملتها الدولتان من أجل التصدي للندخلات والأطماع والفتن والمؤامرات الخارجية ضد الشعوب العربية، ما يعني أن الامارات باتت عنصر فاعل في استعادة الأمن والاستقرار الاقليمي، فما هو الغريب في سعيها للقيام بدور فاعل في حلحلة جهود السلام؟
النقطة الثانية في هذا الجدال أن الجانب الفلسطيني قد اختار الهروب للأمام بدلاً من البحث عن بدائل وحلول يمكن أن تسهم في حلحلة الواقع المأزوم للقضية، لاسيما أن البيئة الاستراتيجية للصراع التاريخي بين الفلسطيني والاسرائيليين قد تغيرت في السنوات الأخيرة، والكل يدرك أن الحاضنة العربية للقضية الفلسطينية لم تعد تتمتع بالمستوى ذاته من المنعة والحصانة التي كانت في مراحل تاريخية سابقة، وأن هناك أطرافاً اقليمية، مثل إيران وتركيا، تتاجر بالقضية وتستغلها سياسياً وإعلامياً ودعائياً بأبشع صور الانتهازية بدعم من وكلاء عرب من تنظيمات وكوادر وعناصر ترتبط مصالحياً وأيديولوجياً وتمويلياً وطائفياً بهاتين العاصمتين.
الحقيقة أن اقامة علاقات رسمية بين الامارات واسرائيل، لم يخرج عن ثوابت الدول العربية، التي اتفقت منذ يونيو عام 1996 فيمؤتمر القمة العربي غير العادي في القاهرة، على أن السلام العادل والشامل خيار استراتيجي للدول العربية، وبالتالي فما حدث ويحدث ليس سوى بحث عن تكتيكات دبلوماسية جديدة للالتفاف على العقبات التي تواجه تنفيذ المبادرات المطروحة للتوصل إلى الخيار الاستراتيجي العربي الشامل، وطالما أن الأمر يدور في إطار "قرار سيادي" لدولة اشتهرت تاريخياً ـ ولا تزال ـ بدعمها المطلق للقضية والشعب الفلسطيني، فلا بد من التفكير بعقلانية في الحلول التي تأتي من خارج الصندوق التقليدي الذي يضم الحلول المطروحة منذ سنوات وعقود مضت، وأصبح سجناً للقضية وللعرب جميعاً، باعتبار أن البعض يتعامل مع أي خروج عن جدران هذا الحيز الذي لم يحقق أي نجاح هو نوع من الخيانة والتفريط !
اعتقد جازماً أن رد الفعل الفلسطيني هو تكرار لأخطاء الماضي، وتفويت لفرصة قد تفتح بابا أمل جديد لانهالاء معاناة ملايين الفلسطينيين.