لو لم يكن الأمر من أجل تمييز ضروري بين المجالات وتعيين سمات الأحداث والتطورات أو التغييرات والتداعيات التي ترتبط بإختلاف المجالات وخصوصياتها النسبية، لما شاطر أي واحد منا فكرة الوقوف على السياسة والإقتصاد والأمن في العراق كُلٍ على حدة، أو تَناولِها كتحديات وملفات بمعزل عن بعضها البعض.

وفي كل الأحوال، ينبغي للعقل الدارس لمجريات الأمور في العراق وعواملها وأسبابها أن لايكون أُحادي النظر والتفسير ولايعزل الأحداث والمواقف في حقل السياسة عن الأحداث والتطورات في مجال الأقتصاد والأمن، أو حتى غيرهم من المجالات المختلفة، التي تشكل وحدات مُسبِّبة ومؤثرة في تفسير بنية المجريات والمشهد الحالي الذي يمر به البلد.

بمعنى آخر، ان هذا التمييز ليس سوى لضرورة علمية وعملية، أو لتشخيص الأمور والمعطيات وحصرها الدقيق في مجال ما دون غيره، وإلا لا خلاف هنا إطلاقاً على وجود علاقة عضوية - بل أحياناً ميكانيكية !- بين المجالات التي ينشط فيها الإنسان ويلعب دوراً فيها. ولذلك نحن بحاجة الى نظرة شاملة في تقصي التحديات الآتية من المجالات المذكورة، ويستوجب أن نكشف خيوط الروابط بين تلك المجالات والأحداث الجارية فيها، لاسيما ان أغلبها مرتبطة ببعضها البعض، بل بات تطور أي منها أو تعزيزه متوقفاً على المجالات الأخرى.

فالحقل الأقتصادي، مثلاً، يأتي في أولوية المجالات التي ينبغي أن يُدرس به الحالة العراقية وما يعاني منه البلد، ذلك لأن الأزمات الأقتصادية ومفرداتها القاسية المتفشية اليوم في مظاهر الفساد الإداري والمالي وظواهر البطالة والفقر والأمية وإنعدام التوزيع العادل للثروة والتفاوت الطبقي الكبير بين شرائح المجتمع العراقي من حيث الدخل والمعيشة والنِعَم، يُفَسِر لنا كُل واحد مِنها العديد من أسباب الحالة الأمنية والسياسية والإجتماعية وحتى البيئية المتهورة والمزرية التي يعيشها العراق.

والمجال الأمني، هو الآخر، وسيلة من وسائل تطوير المجال الأقتصادي للعراق والعكس صحيح، وخاصة في الحالة العراقية!، لأنه، وبجملة، طالما غاب الأمن وسادت الحروب، غاب معها العمران والحركة التجارية والنمو الأقتصادي وفرص العمل وإنتعاش السوق، وبالتالي زاد معه الدمار وصولاً الى كل مظاهر التخلف الأقتصادي للبلد.

ولاينسى أحد منا أن حرب الخليج الأولى كلفت البلد مايقدر بحوالي 100 مليار دولار من الخسائر وكان العراق مثقلا بالديون بعد انتهاء الحرب وكانت العوامل الأقتصادية لها الدور الأكبر في خوض العراق حرب الخليج الثانية بعد سنتين من انتهاء حرب الخليج الأولى وزادت الحرب الثانية دون شك من مشاكل العراق الأقتصادية، حيث فُرض حصار اقتصادي على العراق منذ 6 اغسطس 1990 حتى 21 ابريل 2003، وهذا يعني من جملة ما يعنيه ان حقلي الأمن والإقتصاد، هما في النهاية، مرتبطين ببعضهما البعض الى أقصى الحدود.

والأمر مع المجال السياسي، هو الشيء نفسه، إذ ان التشتت أو التشرذم السياسي، بطبيعة الحال، يُسبب لنا دوماً، لا محالة، - وكما هو الحال حالياً !- نزاعات سياسية وصراعات مُحتدمة بين الأحزاب والقوى المتنفذة وغيرها، وبالتالي يشل قدرات مؤسسات الدولة، بل يُعرقل ويُربك عملية التخطيط ووضع البرامج لإصلاح الأوضاع وإجتياز الأزمات في كافة المجالات، خصوصاً مع واقع الحالة السياسية السائدة في العراق، إذ نلاحظ جميعاً ان أغلب الأحزاب السياسية في البلد يقوم أصلاً على إثارة هذه الخلافات وتأجيجها بإملاءآت خارجية!، أو من خلفيات طائفية أو قومية أو دينية أو حزبية ضيقة ولا يمارسون السياسة إنطلاقاً مما بحاجة اليه البلد، وهذا يعني، بكل بساطة، تدمير البلد، أي إيقاع الأضرار بمجالات أخرى حيوية، على رأسها المجال الإقتصادي والإداري والأمني والإجتماعي وحتى النفسي، وبالتالي وضع البلد في مستنقعات التخلف والتقهقر ومزيد من الويلات والمعانات، وهذا ما علينا دوماً ان نواجهها بشتى الوسائل الممكنة، من بينها تحديداً دراسة المجالات والأحداث بمنهجية شاملة تُنتج لنا معرفة قادرة على تشخيض مواضع الخلل ومكامن الأخطاء.

*كاتب وأكاديمي – من كُردستان العراق