في كثير من المناسبات والمواقف، نقرأ تصريحات كثيرة تصدر عن قادة دول الاتحاد الأوروبي بشأن تماسك الاتحاد وقوته وحرص هؤلاء القادة على أن يكون لأوروبا المكانة الدولية التي تناسبها، ولا أدرى لماذا يقف الاتحاد الأوروبي هادئاً في وجه الاستفزازات التركية لليونان، أحد دول الاتحاد، رغم أن الثلاثي الأقوى في الاتحاد قد تصدى خلال شهر أغسطس الماضي للموقف الأمريكي الصارم ضد ملالي إيران! حيث أعلنت فرنسا وألمانيا وبريطانيا وقتذاك في بيان رسمي مشترك أنها لن تدعم طلب واشنطن من الأمم المتحدة إعادة فرض عقوبات على ايران على خلفية اتهامات موجهة الى طهران بانتهاكها الاتفاق النووي الذي أُبرم عام 2015، وافشلوا جهود الولايات المتحدة لتفعيل ما يسمى بآلية "سناب باك" التي تهدف الى إعادة فرض عقوبات على إيران حتى أن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو قد اتهم "الثلاثي" الأوروبي بالانحياز لملالي إيران.

على عكس هذا الموقف تماماً، تأتي ردود الأفعال الأوروبية على الاستفزازات التركية المتوالية، لاسيما أن الأمر لم يقتصر على تهديد سيادة اليونان، إحدى دول الاتحاد الأوروبي، بل امتد ليشمل توجيه اهانات متكررة للرئيس الفرنسي ماكرون، وتهديد مصالح دول الاتحاد الأوروبي في ليبيا، التي يعد استقرارها وأمنها احد مفاتيح الأمن والاستقرار الأوروبي.

صحيح أن الدول الاوروبية الكبرى لا تقف صامتة حيال تركيا، ولكن ردود أفعالها لا تزال دون مستوى الخطر والتهديد التركي، لاسيما أن أطماع "السلطان" أردوغان لم تعد مجرد تحليلات ولا تخمينات بل بات يتحدث عنها بشكل علني، فهو من أشار مؤخراً إلى أن بلاده تسعى لبسط السلام في منطقة شرق المتوسط بصفتها "وريثة الحضارة العثمانية"، وبات واضحاً أن تفاقم أزمات الاقتصاد التركي بات يخنق "السلطان" ويدفعه إلى ارتكاب المزيد من الحماقات الخارجية، فهو يندفع باتجاه دول الاتحاد الأوروبي، قولاً وفعلاً، بشكل لافت، بعد أن تيقن من "موت" فكرة انضمام تركيا للاتحاد، مايدفعه إلى تبني لغة ونهجاً مغايراً تجاه أوروبا، معتقداً أنها تعيش أوقات ضعف وتراجع بما يجعل من الصعب عليها الوقوف بوجه طموحاته واستفزازاته المتواصلة.

يرى بعض المراقبين أن التصعيد مع أوروبا لا يخيف "السلطان" أردوغان" بل هو فرصة ثمينة لإعادة توزيع الأدوار في ظل انهيار النظام العالمي القائم ورغبة القوى الدولية في إعادة توزيع الأدوار وترتيبها وفقاً للمعطيات الاستراتيجية التي خلفتها أزمة "كورونا"، علاوة على مشاعر الحقد الدفينة لدى أردوغان تجاه أوروبا، ورؤاه الأيديولوجية المسيطرة على سياساته وتوجهاته، كما يٌعتقد أن هذا التصعيد يقابل بصمت أمريكي يعبر عن موقف الرئيس ترامب حيال شركائه الأوروبيين.

أياً كانت الأسباب والدوافع، فإن الاستفزازات التركية المتواصلة وتدخلها الفج في أزمات عدة في آن واحد من دون وقفة جادة من القوى الكبرى، وخصوصاً الاتحاد الأوروبي باعتباره الطرف الأكثر تأثراً بسلوك تركيا، يشجع "السلطان" على مواصلة هذا السلوك.

أحدث ردود الأفعال الأوروبية تجاه تركيا، جاءت على لسان وزير الخارجية الألماني هايكو ماس الذي طالب تركيا مؤخراً بـ "وضع حد لدوامة التهدئة والاستفزاز" في شرق البحر المتوسط بعد أن أرسلت أنقرة مؤخرا سفينة استكشاف للبحث عن الغز الطبيعي مهددة بتصعيد التوتر مجدداً مع اليونان، أما مسؤول الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل فقد اكتفى بتحذير أنقرة، أما اليونان نفسها فقد دعت تركيا إلى التراجع فوراً عن أعمالها "غير القانونية"، وقال المتحدث باسم الحكومة اليونانية ستيليوس بيتساس "لقد أثبتت تركيا أنها تفتقر إلى المصداقية، وإن الاتحاد الأوروبي لا يحتاج إلى الانتظار شهرين قبل اتخاذ إجراء"، وحثت اليونان الاتحاد الأوروبي على توقيع عقوبات ضد تركيا.
اللافت في الأمر أنه وسط هذه الأزمة التي افتعلتها تركيا، أن أردوغان "ابلغ رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل بضرورة إحراز تقدم بشأن تحسين العلاقات بين أنقرة والاتحاد الأوروبي"!.

الحقيقة أن الاتحاد الأوروبي لا يزال يتمسك بخيط رفيع يربطه بتركيا، حيث اكتفى بالتنديد بالاستفزازت التركية، ولوح خلال قمة عقدها في وقت سابق هذا الشهر، إلى فرض عقوبات إذا لم توقف تركيا أنشطة حفر واستكشاف غير قانونية في المياه التي تطالب بها قبرص واليونان، حيث أقر البيان الصادر عن المجلس الأوروبي في الأول من أكتوبر بأن تركيا تتخذ "إجراءات أحادية الجانب تتعارض مع مصالح الاتحاد الأوروبي وتنتهك القانون الدولي والحقوق السيادية للدول الأعضاء في الاتحاد"، ومع ذلك اكتفى بالتهديد بفرض عقوبات معرباً عن توقعه بأن تمتثل تركيا لالتزاماتها، وحذرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين من أنه "إذا واصلت أنقرة أنشطتها غير القانونية، سنستخدم الوسائل المتاحة لنا"، وقالت إنه جرى إعداد عقوبات اقتصادية وهي جاهزة "للتنفيذ فوراً".

الواضح أن المسألة تكمن في الانقسام الاوروبي حول معاقبة تركيا، وهذه إحدى معضلات العمل الأوروبي المشترك والسياسة الخارجية الأوروبية بشكل عام، حيث يفترض أن يدرس القادة الأوروبيين هذه المعضلة التي تضعف جور ومكانة أوروبا وتحد من فاعليتها في التأثير على الأزمات الدولية، فأوروبا الموحدة يجب أن تسمع العالم صوتاً واحداً قوياً في كل الأزمات، ولاسيما تلك التي ترتبط بمصالحها الاستراتيجية، وعدا ذلك فهي تغامر بألا يكون لها التأثير المرجو في عالم مابعد "كورونا".