الحرب الجارية بين أرمينيا وأذربيجان لا تشبه التوترات التاريخية السابقة التي عاشها إقليم ناغورني قرة باغ المتنازع عليه بين الدولتين في تسعينيان القرن الماضي، وذلك بسبب حالة الإنقسام الحاد والاصطفاف الشديد التي تشهده منطقة القوقاز في الآونة الأخيرة، حيث تلقي تركيا بكامل ثقلها لدعم الجيش الأذري ساعية إلى الحسم بما يضمن لها تحقيق أهدافها الاستراتيجية والاقتصادية، وأهمها السيطرة على منابع الطاقة والغاز؛ في حين تعتبر روسيا نفسها الراعي الرسمي لمنطقة خضعت لسيطرها قرونا زمن الحكم القيصري كما كانت جزءًا من أراضيها خلال الحقبة السوفيتية؛ فيما تسعى إيران إلى دعم ارمينيا بوصفها النافذة الإقتصادية التي من خلالها تسعى طهران لكسر العقوبات المفروضة عليها .

ويشكل إقليم ناغورني قرة باغ منطقة انفصالية متنازع عليها تعيش فيها غالبية أرمينية ترفض سلطة أذربيجان. ويقع هذا الإقليم بين إيران وروسيا وتركيا وهو لا يزال تابعا بنظر المجتمع الدولي إلى أذربيجان. ويحظى بأهمية لموقعه الجغرافي الذي يعد الممر الاستراتيجي للنفط والغاز الطبيعي المستخرج من بحر قزوين. واثر تفكك الاتحاد السوفيتي سيطر الأرمن في عام 1993 على مساحة تقدر بثمانية آلاف كيلومتر مربع تسكنها غالبية أرمنية واعلنوها منطقة "آمنة"، وهو ما يشكل خمس مساحة الأراضي الأذرية . وعلى الرغم من المفاوضات التي جرت وقتها تحت إشراف مجموعة "مينسك" التابعة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي وتشمل كلا من والولايات المتحدة وفرنسا وروسيا إلا انه لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام واضح يحدد الوضع الرسمي للإقليم الذي لم يحظ باعتراف دولي حتى الآن .

ومع اندلاع المعارك مجددا دعت الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى وقف اطلاق النار الفوري و الضغط على القوى الإقليمية الفاعلة ( روسيا وتركيا وايران ) لكبح الانجرار الى حرب شاملة يخسر فيها الجميع.

فما هي مواقف تلك الدول من النزاع و ما هي العوامل المؤثرة فيه؟

روسيا و ابقاء طرفيّ النزاع تحت السيطرة

الى الآن فإن روسيا تسعى للحؤول دون الانزلاق الى حرب شاملة، إذ يؤدي وقوفها العلني مع أحد طرفيّ النزاع إلى خسارة كبيرة لها. فهي لن تسمح بحال من الأحوال أن يستخدمها أي طرف منهما لتحقيق أهدافه. فروسيا التي تبيع الأسلحة للجانبين على حد سواء ، وَتُعد المزود الأول لسلاح الجيش الأذري، كما تمتلك قاعدة عسكرية في أرمينيا ، تبدو وكأنها تريد تطويل أمد الصراع الذي سيكسبها نفوذا أعمق تحقق من خلاله مكاسب عديدة منها : إضعاف موقف رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان مما يسهل لها عملية الإطاحة به من أجل تنصيب ودعم حاكم أرميني جديد يكون أكثر ولاء لها و يتخذ موقفا الى جانبها في القضايا الإستراتيجية ، فبعد أن سعت أرمينيا خلال العقد الأخير إلى تحقيق انفتاح على السياسة الغربية فإن موسكو تريد ان تلقن يريفان درسًا بأنه لا يمكن تجاوز الدور التاريخي لأرمينيا بصفتها دولة "تحت المظلة" الروسية.

وعلى الرغم من معاناة الكرملن من تدخلاته الخارجية في القرم وبيلاوسيا ، والاتهامات المباشرة للنظام بتسميم معارضيه الذي كان آخرهم "الكسي نافالني" و ارتكاب جرائم في سوريا ، علاوة على تنامي مشاعر الغضب الشعبي في داخل روسيا، فإن "القيصر" بوتن يرغب في حفظ نفوذه في القوقاز مع كافة الامتيازات دون الانجرار إلى الحرب تؤدي الى تشكيل "خاصرة رخوة" و بؤرة لعدم الاستقرار الاستراتيجي على حدوده الجنوبية، مع ابقائه على دوره "كرقيب" في اي عملية مفاوضات لفض النزاع المرتقب حول ناغورني قرة باغ .

تركيا و أذربيجان في خندق واحد

منذ مطلع الألفية بدأت يتظّهر الموقف التركي الإقليمي ، وفي الأعوام العشر الأخيرة انعكست الطموحات التركية الجيوسياسية في تدخلاتها في دول الجوار وحوض المتوسط بدءا من سوريا مرورًا بليبيا، علاوة على تصعيد مواقفها مع اليونان ، وصولا الى الخليج عبر شراكتها العسكرية مع قطر.

أما القوقاز فتركيا تعتبره الامتداد الطبيعي لشعبها والعمق الاستراتيجي التاريخي لها، فالأراضي الغنية بالثروات الطبيعية في أذربيجان تجعل من الأراضي التركية حاجة ضرورية لمرور أنابيب الطاقة إلى أوروبا، فيما تقف أرمينيا – من الناحية الجغرافية – كحاجز طبيعي يقطع صلة تركيا بدول كثيرة غنية بالنفط و موارد الطاقة في القوقاز، لذلك فإن أنقرة تقف بشكل مباشر وعلني إلى جانب باكو التي تعتبرها صديقة لعدو مشترك هو أرمينيا، كما ترتبط معها باتفاقيات عسكرية ثنائية تعود الى تسعينيات القرن الماضي وتهدف الى الشراكة الاستراتيجية والدفاع المشترك حيث يعد الجيش التركي هو المؤسسة الراعية للجيش الأذري.

و يذهب بعض الخبراء الى أبعد من ذلك حيث يعتبرون ان تركيا هي التي تحرض أذربيجان للحرب ضد أرمينيا بهدف ربط الدول المنتمية للعرق التركي بأصوله ومتفرعاته، إذ ان الحلم التركي قد لا يقف عند حدود تحرير الاقليم المتنازع عليه، وان كانت العوامل الجيوستراتيجية عميقة فإن الاسباب التاريخية و الثقافية لا تقل أهمية عنها فالشعار " أمة واحدة في دولتين" يوحي بتلك الأهداف على الرغم من أن أنقرة تعلم علم اليقين أن ذلك سيفتح عليها مخاطر جمة مع روسيا والاتحاد الأوروبي ، فدخول تركيا في الحرب ستكون مغامرة غير مقبولة دوليا ، والناتو قد ضاق ذرعًا بمغامرات أنقرة العسكرية خارج حدودها وهو يرى سعيها الحثيث لبسط سلطتها على مساحات شاسعة في الجبهات المشتعلة .

إذن فإن "السلطان" أردوغان يسعى لتغيير المعادلات العسكرية السابقة في القوقاز لفرض شروط على طاولة المفاوضات ، فمن جهة يحمل روسيا من خلال المساومة حول اقليم ناغورني قرة باغ لانتزاع مواقف منها في كل من سوريا وليبيا ومناطق أخرى، علاوة على ترسيخ نفوذه للوصول إلى منابع الغاز والطاقة و تأمين خطوط امدادها .

إيران تدعم أرمينيا

موقف طهران الداعم لأرمينيا طرح الكثير من علامات التساؤل حول سياسة "الجمهورية الاسلامية" وقد اعتبره البعض غريبًا وهو ليس بغريب، فإيران تنظر بحذر الى تمدد النفوذ التركي"السني" في "العالم الاسلامي" وأسيا الوسطى ، وعلى الرغم من الامتداد الديني والعرقي و المذهبي بين باكو وطهران حيث ان غالبية الأذريين على المذهب الشيعي وبعضهم يتبع مباشرة الى مرجعيات قم وتبريز، وعلى الرغم من أن اكثر من ثلث الشعب الإيراني من أصول أذرية بما فيهم المرشد خامنئي ، وعلى الرغم من ان ايران الفارسية عبر التاريخ ( عام 1724) قد تزعمت حلفًا مع الأرمن و الأذريين لمواجهة العثمانيين آنذاك ، فعلى الرغم من كل ذلك تقف طهران خلف يريفان في نزاعها حول اقليم ناغورني قرة باغ ، وذلك لاسباب عدة منها ما يهدف بالدرجة الأولى الى تعزيز نفوذها الإقليمي وفتح نافذة اقتصادية مباشرة لها عبر ارمينيا لا سيما في ظل العقوبات الاقتصادية التي تفرضها واشنطن عليها لها ، فأرمينيا تعتمد بشكل مباشر على النفط الايراني وهي تعد مصدرا وحديقة خلفية لطهران في إمدادها بالعملات الصعبة ، كما أن وقوف أذربيجان الصريح في دعم الحركات المناوئة لنظام الملالي دفعها لاتخاذ موقفا حذرا من الأذريين . فطهران تعتبر- عبر التاريخ- أن أذربيجان "محافظة ايرانية" في وقت ترفض باكو التبعية تلك وتؤكد استقلاليتها . وبالتالي فإن من مصلحة طهران الحالية إضعاف أذربيجان لكبح جماح المعارضة الداخلية في ايران وكي لا تسعى الأقلية الاذرية الى المطالبة بالمزيد من الحقوق المدنية او الانضمام الى دولتهم، بل و قد اعتقلت قوات الباسيج يوليو الماضي متظاهرون من الأقلية الأذرية في طهران دعوا الى تأييد باكو في حربها ضد أرمينيا .

أيضًا فإن العلاقات الأذرية الاسرائيلية تقلق ايران حيث تعتبر ذلك تهددًا لأمنها القومي . إضافة إلى ان مشاركة ايران العلنية في الحرب السورية بجانب نظام الأسد جعلها في مواجهة غير مباشرة مع تركيا التي تدعم المعارضة في الشمال السوري.

إذن فإن موقف "المرشد" في ايران يُعد الأكثر مراوغة في تحقيق الاهداف حيث يرغب في مواجهة الخصم "التركي" من جهة بشكل علني كما يرغب في تأليب الرأي الشعبي الأذري في الخفاء كما يسعى للإستفادة من أرمينيا بوصفها الممر الآمن لنفطه ومعبرا مناسبًا لكسر العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه.

أخيرًا، يجب أن لا نغفل مصلحة الولايات المتحدة من هذا الصراع حيث ترغب في إضعاف جميع فرقاء النزاع ومن ورائهم على حدٍّ سواء. فالولايات المتحدة منزعجة من ارمينيا وعلاقتها مع النظام الايراني الذي تعتبره واشنطن سببًا في تأجيج الارهاب العالمي وتفرض عقوبات صارمة عليه، كما أنها تنظر بحذر لمواقف روسيا المعادية لها في المنطقة، إضافة الى أن الإدارة الأميركية غير راضية عن الموقف التركي وتدخلاته المتكررة خارج حدود أراضيه.