نحن في الواقع لا نعلم عن كيفية تعامل الله مع عباده إلا من خلال الكتب الدينية(المقدسة)، فمثلاً يخبرنا القرآن أن الله استجاب لموسى عليه السلام وأهلك فرعون غرقاً في البحر، لكن في حاضرنا لا نجد أي أحداث مثل تلك التي قرأنا عنها في الكتب الدينية، فلماذا كان الله حاضراً في الماضي وغائباً في الحاضر؟ هل هذا يعني أن الله لم يعد يهتم أو يبالِ بخلقه؟ أم أن الله يُفضِّل لغة الصمت لكي يُميِّز المؤمن من غير المؤمن؟

حتى الرؤى التي يقال أنها من النبوة وأنها تعزي المؤمنين، قد تكون مجرد أضغاث أحلام، كذلك الكوارث البيئية التي تحدث أو هلاك وموت أحد الطغاة ليس دليلاً على أنه كان بتدخل مباشر من الله، لأنها قد تُعزى إلى أسباب وعوامل طبيعية يكشف عنها العلم ويتنبأ بها.

ماهو الحل لتلك المعضلة؟ وكيف نستطيع أن نوصل صرخاتنا وأفكارنا واقتراحاتنا لله؟ كيف نوجِد الأعذار لصمت الله(كما يعتقد الكثير أن الله يلتزم الصمت"تعالى الله عن ذلك الاعتقاد علواً كبيرا")؟

معظمنا يرغب في انتصار الخير على الشر، لكننا نشعر دائماً أن الشر هو المنتصر، الأشرار أقوياء وتطول أعمارهم، أهل الخير والأنقياء يكونون ضعفاء ويرحلون عن حياتنا سريعاً(هذا هو الانطباع العام لدى معظم الناس بغض النظر عن صحته)، إلى درجة أننا أحياناً نشعر أن الله يقف ويساند أهل الشر! لماذا كل هذا؟ هل من تفسير؟

هذهِ التساؤلات وغيرها الكثير ترد على عقولنا شئنا أم أبينا، لكن لا أحد يريد البوح بها أو مناقشتها بشكل واضح لسببين: إما خوفاً من الناس لكي لا يكفِّروه أو ينبذوه، أو بسبب اليأس من كونها تساؤلات شبيهة بالمعادلات الرياضية التي لا حل لها، فيحاول الانشغال بقضايا دنياه ويُقبل عليها بكل طاقته ويترك ما سواها مما لا يكون في متناول العلم وأدواته(وذلك من خلال إلحقاها بالميتافيزيقا بشكل أو بآخر)، وهذا وإن كان مسلكاً إيجابياً في ظاهره، إلا أن ذلك الإنسان بعقله الجبار يفتقد للروح الحية التي تجعل للحياة معنى وقيمة، فيكون هذا الإنسان عالِماً بعقله وميِّتاً بروحه.

بعد بحث طويل(كما أزعم) وجدت أن الجواب يكمن في التصوف، والذي هو أساس ولُبّ المظهر الباطني للدين بحسب تقسيم وليم جيمس لتجليات الدين، والإشكالية هنا أن هذهِ النتيجة التي توصلت إليها لن يستشعرها أو يفهمها إلا من عرف التصوف ودخل في محرابه المقدس، لذا يقول أهل التصوف: (من ذاق عرف، ومن عرف اغترف، ومن اغترف اعترف، ومن اعترف أدمن ما عرف). لذا عندما ترى من يلهج بذكر الله مفرداً هكذا(الله الله الله...) أو تراه يتفنَّن ويتلذَّذ بصلواته على النبي بصيغ خاصة كالصلاة الكمالية أو صلاة الفاتح، جميعها تجارب صوفية عميقة تُشبع الروح وتبلُغ بها ما لايمكن أن تبلغه بأي دين أو مذهب كلاسيكي مجرد من الروحانية التي هي غرض الدين في حقيقته، ووفق الرؤية المذهبية المُسوَّرة والمنغلقة سيكون هذا ابتداعاً وضلالاً! ومن يريد ديناً بلا تصوف، فهو يتعامل مع الإنسان كما لو أنه آلة مرفق معها دليل الاستخدام(الدين بأوامره ونواهيه وطقوسه الشكلية)، لكن واقع الإنسان ليس كذلك، فهو روح ونفس وجسد.
لن ترى الله سوى في التصوف، ولن تفهمه سوى في التصوف، والذي فيه أيضاً ستلتمس الأعذار لصمت الله وستترقَّى شيئاً فشيئاً حتى تستمتع بهذا الصمت الإلهي وسيتحول بالنسبة لك إلى سر إلهي تشعر بأثره في قلبك(الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم) هذا الوجل يستحيل أن يصل إليه المؤمن في غير التصوف. في التصوف يتعجب الله من عبده، كيف استطاع هذا الإنسان رغم وجود بعض الأدلة والشواهد القوية التي تكاد تنفي وجود إله أن يصل لله ولم يتشبَّث بإيمانه فحسب بل وصل إلى مرتبة الإحسان والعشق لله وإنكار الذات وكل شيء فلا يرى في الوجود سوى الله!

التصوف عندما يُبنى على العلم الشرعي المستند على القرآن الكريم متحداً بمعرفة فلسفية لدى الفرد؛ لا يكون حينها دروشة ولا ينطوي على سلوكيات هستيرية أو اعتقادات باطلة وخرافية، بل يكون صاحبه إنسان أقرب إلى الكمال في صفاته وأفعاله.