في هذه العجالة، سوف نتطرق الى الدور الذي لعبته إسرائيل في انفصال جنوب السودان عن شماله، وفي بناء سد النهضة الإثيوبي بهدف الضغط على مصر وإضعافها سياسيا واقتصاديا وتركيعها لتتجاوب مع كل متطلبات السياسة الإسرائيلية، ولو كانت على حساب الشعب الفلسطيني والمصالح العربية.

تقسيم السودان
كانت هناك تقديرات إسرائيلية منذ بداية استقلال السودان في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، انه لا يجب ان يسمح لهذا البلد رغم بعده عن اسرائيل ان يصبح قوة مضافة الى قوة العالم العربي لأن موارده الطبيعية إن استمرت في ظل أوضاع مستقرة ستجعل منه قوة يحسب لها ألف حساب. وفي ضوء هذه التقديرات كان على إسرائيل ان تتجه الى هذه الساحة وتعمل على مفاقمة الأزمات وإنتاج أزمات جديدة حتى يكون حاصل هذه الأزمات معضلة يصعب معالجتها فيما بعد. جاء هذا في محاضرة ألقاها عام 2008م وزير الداخلية الإسرائيلي وقتها "أفي ديختر" تحت عنوان "أبعاد الحركة الإستراتيجية الإسرائيلية المقبلة في البيئة الإقليمية".

أظهرت وثائق إسرائيلية حجم التدخل الذي قام به "الموساد" لتقسيم السودان وطبيعة دوره في تسليح جيش "جنوب السودان" والاعتماد على عميل يدعى "دافيد بن عوزئيل" (اسمه الحركي الجنرال جون). وسمحت الرقابة الإسرائيلية قبل سنوات بنشر وقائع حول دور جهاز الاستخبارات والعمليات الخاصة بالموساد والمتعلقة بإنشاء أحدث دولة في العالم. وتشير تلك الوثائق إلى أن الجنوبيين بدأوا في طلب المساعدة من إسرائيل منذ النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، وأنه في عهد رئيسة الحكومة الإسرائيلية "غولدا مائير" تقرر تقديم الدعم لهم إلى حين انفصالهم في شهر يوليو 2011م.
ساهمت اسرائيل بشكل فاعل في تدريب وتسليح المجموعات العسكرية والمليشيات القبلية عبر شركات حماية أمنية، وهو ما ساهم في توسيع دور "جيش المتمردين" ولاحقا جيش دولة "جنوب السودان" لتقوم الدولة الوليدة بدفع فاتورة دعم اسرائيل لها، وهي تفعل ذلك وستبقى تفعله نظرا للتغلغل الاسرائيلي في هذه المنطقة الحيوية من افريقيا، ليس فقط لكونها خزانا نفطيا لا يستهان به، بل اكثر من ذلك كونها ركن افريقي يشكل مرتكزا لتحرك اسرائيلي نحو اي المناطق الافريقية المراد استهدافها وعلى رأسها السودان الشمالي ومصر.

لا شك أن انفصال "جنوب السودان" عن شماله، والإعلان عن قيام دولة مستقلة فيه بمثابة الحلم الذي ظل يراود قادة اسرائيل لعقود طويلة، خاصة وأنهم يحلمون بوجود كيانات صغيرة تكون أقرب لها، وتقف على مسافة واحدة معها من العداء والخلاف مع العرب، وبالتالي جاء خلق دولة "جنوب السودان" ليخدم قادة اسرائيل للتآمر على العرب. دول العالم اجمع تعرف أن تقسيم السودان حقق لإسرائيل الكثير من المكاسب والمصالح، وها هي السودان (الشمال) في ظل الخريطة الجيو سياسية الجديدة تتهاوى أمام أعيننا في احضان إسرائيل وسط عجز عربي مخجل ينذر بسقوط مزيد من الدول العربية في أحضان إسرائيل بتشجيع او ضغط من جانب الولايات المتحدة الأمريكية.

بناء سد النهضة الإثيوبي
نجح الكيان الإسرائيلي في التغلغل مبكرًا في القارة الإفريقية وإقامة علاقات دبلوماسية قوية مع أغلب الدول هناك، ما مكنه من محاصرة دعم الأفارقة للعرب والفلسطينيين والاستئثار بدعمهم في المحافل الدولية والإقليمية خدمة لمشروعه المشبوه. هذه المكانة الكبيرة في القارة السمراء، لم تحصل عليها إسرائيل بسهولة، فقد لجأت إلى طرق ملتوية عديدة مثلما حصل مع الإثيوبيين، ورغم العقبات وصلت إلى مستويات متقدمة، حتى إن الإسرائيليين أصبحوا يتحكمون بالمشهد العام هناك.
خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" إلى إثيوبيا في شهر يوليو 2016م ضمن جولة له في دول الشرق الإفريقي، أعلن عن سعادته لأنه أول رئيس وزراء إسرائيلي يزور إثيوبيا، وأكد استعداد بلاده لتقديم العون التكنولوجي لإثيوبيا لاستكمال مشاريعها مركزاً في خطابه أمام البرلمان الإثيوبي على قطاع الزراعة، وقد ورد في خطابه العبارة التالية ذات الدلالة الواضحة، قال حرفياً: "هذه هي رؤيتي لتعاوننا: أن يتمتع المزارعون الإثيوبيون بفوائد المعرفة know-how الإسرائيلية، ويعملون معنا لتوجيه المياه إلى كل اتجاه يريدونه".

بعد تصاعد الخلاف بين إثيوبيا ومصر حول آثار السد الإثيوبي، تواترت تقارير إسرائيلية، وغربية، وعربية في العام 2019م، عن نصب إسرائيل نظام دفاع جوي من نوع "سبايدر إم آر Spyder-MR" حول سدّ النهضة الإثيوبي يمكنه من إسقاط الطائرات الحربية من على بعد 5-50 كم، وقد أنجزت ثلاث شركات إسرائيلية هي شركة "رفائيل Rafael" المتخصصة في صنع الصواريخ، وفرع "إم.بي.تي MBT" للصواريخ التابع للصناعات الجوية الإسرائيلية، وشركة أنظمة "إلتا “Elta المتخصصة في الرادارات، هذا النظام الدفاعي لإثيوبيا.

أطماع "إسرائيل" في مياه نهر النيل قديمة جدًا، فهي تسعى للسيطرة عليه بناءً على الأساطير الدينية اليهودية التي ترتكز على دعوى أرض الميعاد، فهم يزعمون أن كتابهم المقدس "التوراة" جاء فيه أن الله قطع العهد لإبراهيم وأولاده بأن يأخذوا الأرض الممتدة من نهر النيل إلى نهر الفرات.
قال الباحث الإسرائيلي "أوفير وينتر" في تقرير له : "إن أزمة سد النهضة وضغط العجز المائي الذى ستعانى منه مصر في المستقبل سيؤدى بها إلى اللجوء لإسرائيل الرائدة في تقنيات تحلية المياه وتحسين استهلاكها في ري الأراضي الزراعية، وبالتالي تحسين العلاقات بين البلدين وتعزيز التعاون والتحول عن السياسة الباردة التي كانت تتعامل بها مصر مع إسرائيل. هذا الأمر سيخدم مجموعات متنوعة من المصالح، ومنها تعزيز الاعتراف المصري بفوائد السلام مع إسرائيل، وتوسيع نطاق العلاقات الثنائية بين الحكومة والأحزاب في كلا البلدين، وأن الحلم الأسمى الذى كان يراود إسرائيل منذ عام 1949م بتوصيل فرع النيل إليها والاستفادة منه، هذا المطلب الذى كان يقابله رفض مصري قاطع، حالياً تتيح ظروف البلدين فرصة إحياء الآمال المسروقة من جديد." لم تكتفي إسرائيل بمساعدة إثيوبيا فنيا وماديا لبناء السد، بل تعهدت كذلك بالدفاع عنه عسكريا.

اهتمام الإسرائيليين بإثيوبيا، تشكل بموجب عدة دوافع سياسية واقتصادية وإستراتيجية وجيو إستراتيجية، فثمة إجماع لدى النخبة وصانع القرار الإسرائيلي على أن إثيوبيا تعتبر المفتاح السحري للتغلغل في القارة الإفريقية وطعن الأمن القومي العربي. ما زال "سد النهضة" يثير خلافات كبيرة بين إثيوبيا ومصر، حيث فشلت كل المباحثات الرامية إلى التوصل لاتفاق بينهما، ومن شأن مشروع السد أن يقلص حصة القاهرة من المياه ويتسبب في تصحر مساحات زراعية واسعة من أراضي مصر. أدركت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ العام 1948م، أن السيطرة على نهر النيل يهدد مصالح مصر الإستراتيجية وأمنها القومي، لذلك عملت جاهدة للسيطرة عليه، ففضلًا عن حاجتها لمياه النيل، يسعى الكيان الصهيوني للإضرار بمصالح مصر مهما كلفه الأمر.

الدور الآتي سوف يكون على العراق لتقسيمه الى ثلاث دول "شيعية وسنية وكردية"، ما لم يعاد النظر في الدستور الحالي الذي يكرس الطائفية السياسية، والعمل بجدية لكبح جموح المتطرفين من مكوناته الثلاثة، وحل جميع الميليشيات المسلحة وحصر السلاح في يد الدولة.