انتخابات الرئاسة الأمريكية حدثاً كبيراً يهم العالم أجمع، وتتابعها الأوساط والدوائر السياسية والاعلامية في جميع دول العالم باهتمام بالغ، وليس هناك حاجة كبيرة لتفسير هذا الأمر، فالولايات المتحدة لا تزال هي القوة العظمى التي تهيمن على مفاصل القرار والسلطة في النظام العالمي القائم، ومهما قيل عن ضعفها وتراجعها وأحياناً انهيار امبراطوريتها، فإن ذلك لا يقلل من أهميتها ومكانتها الاستراتيجية في عالم اليوم على الأقل في اللحظة التاريحية الراهنة، والأمر لا يقتصر على ذلك بل هناك الظروف المصاحبة لتلك الانتخابات وهي ظروف تجعل للنتائج، أياً كان الفائز، أهمية نوعية استثنائية سواء باستمرار السياسات الأمريكية الحالية وما يعنيه ذلك من تبعات وتداعيات، أو بإعادة النظر في الكثير من هذه السياسات وما يعنيه ذلك ايضاً من تبعات وتداعيات. وهذا ما يفسر هذا "الشغف" والاهتمام العميق بمتابعة تطورات حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية ساعة بساعة، ولا أجد نفسي مبالغاً حين أقول أن هذا السباق الانتخابي هو الأكثر إثارة وقلقاً للعالم مقارنة بكل الجولات الانتخابية السابقة، فالعديد من العواصم تحبس أنفاسها بالفعل بانتظار إعلان نتائج الانتخابات التي ستجرى في الثالث من نوفمبر المقبل.

ومن خلال متابعة قضايا وسجالات السباق الانتخابي المحتدم، يمكن الحديث عن ملاحظات أساسية عدة أولها صعوبة الرهان على نتائج استطلاعات الرأي التي تضع المرشح الديمقراطي جو بايدن في وضعية أفضل من منافسه، الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، فالاستطلاعات تشير إلى أفضلية كبيرة لبايدن، ولكننا لا ننسى درس انتخابات عام 2016، حين كانت هيلاري كيلنتون في ذات الأجواء وربما بنفس الاحصاءات والأرقام، ولكنها خسرت الانتخابات بفعل أصوات المجمع الانتخابي الذي حسم السباق لمصلحة الرئيس ترامب، علاوة على أن نتائج الاستطلاعات لا تنطوي على فارق نقاط "مطمئن" أو كبير يمكن اعتباره حسماً مبكر للصراع الانتخابي. والأمر هنا لا يقتصر على تجربة سابقة بل يتضمن أيضاً الظروف التي تحيط بهذه الانتخابات ولاسيما تفشي وباء "كورونا" في الولايات المتحدة والعالم، حيث يصعب على الناخبين المغامرة بالتغيير في مثل هذه الظروف، وهذا العامل يزداد تأثيراً في ظل احتفاظ الرأي العام الأمريكي بانطباعات سلبية عن الإدارة الأمريكية السابقة (إدارة باراك أوباما) التي كان بادين نفسه أحد أركانها.

والمعروف أن أي رئيس أمريكي جديد يجري تغييرات على سياسات سلفه، ويتجه إلى تنفيذ التعهدات والوعود التي ذكرها في برنامجه الانتخابي كما فعل الرئيس ترامب بالنسبة لقضايا وملفات كثيرة، ولكن حجم الثبات والتغيير في السياسة الخارجية هذه الجولة يبدو كبيراً للغاية، فهناك ملفات عدة تنتظر الحسم في نوفمبر المقبل، مثل التعامل مع حلفاء واشنطن الأطلسيين والتغير المناخي، وإيران وقيادة العالم وموقف الولايات المتحدة تجاه مسؤولياتها والتزاماتها الدولية والعلاقات مع الصين وروسيا وغير ذلك.

الملاحظة الثانية أن بديهية عدم مبالاة الناخب الأمريكي بقضايا السياسة الخارجية لا تعني عدم أهمية هذه القضايا في الصراع الانتخابي، ويجب أن نلاحظ ـ على سبيل المثال ـ أن مواقف الرئيس ترامب المتشددة تجاه ملالي إيران ونجاحه في لعب دور رئيسي توج بتطبيع العلاقات بين دول عربية عدة وإسرائيل، تحظى هذه المواقف بدعم شريحة كبيرة من الناخبين الأمريكيين بغض النظر عن توصيفهم السياسي والأيديولوجي. واعتقد أن إدارة العلاقات مع الصين تحظى باهتمام كبير من الناخبين الأمريكيين ليست باعتبارها قضية سياسة خارجية ولكن من زاوية تأثير الصين الكبير على أسواق وفرص العمل في الداخل الأمريكي، فإحدى نقاط الصراع الانتخابي تتمحور

بالفعل حول كيفية إدارة العلاقات مع الصين، فالرئيس ترامب يسعى لمحاصرة الصعود والتفوق الصيني عن طريق حرمان الشركات الصينية من التقنيات الأمريكية، بينما يميل منافسه بايدن إلى الابقاء على صيغ التعاون والشراكة على الأقل خلال المدى المنظور.

الملاحظة الثالثة أن تصعيد الرئيس ترامب بشأن إيران لا يعني بالضرورة أنه سيضغط زر الحرب معها بمجرد فوزه بولاية رئاسية ثانية كما يعتقد البعض في منطقتنا، واعتقد أن العكس هو الصحيح، لأن بقاء ترامب سيدفع الملالي إلى تبديل مواقفهم وإظهار سيناريوهات معدّة بالفعل للتعامل مع ترامب في ولايته الثانية من خلال تقديم التنازلات بدعوة "تجرع السم" والقبول بالجلوس مجدداً على مائدة التفاوض لتوقيع اتفاق نووي جديد، واعتقد أن الموقف الايراني في هذا الشأن جاهز للإعلان وينتظر لحظة مناسبة لأن الملالي باتوا على ثقة بأن استراتيجية الرئيس ترامب القائمة على الضغوط الاقتصادية القصوى تجعل نظامهم غير قابل للاستمرار، خصوصاً أن هناك مؤشرات على شرق أوسط جديد يلوح في الأفق في ظل تطبيع العلاقات بين دول عربية عدة وإسرائيل.

وإذا كانت هناك محطات فارقة في مسيرة النظام العالمي والعلاقات الدولية، فإنني اعتقد أن انتخابات الثالث من نوفمبر هي أحد أهم هذه المحطات، التي ستحدد وجهة الكثير من القضايا والموضوعات خلال المستقبل المنظور، سواء باستمرار الرئيس ترامب وتكريس سياسته الخارجية الحالية حيال ملفات عدة، أو بفوز المرشح الديمقراطي جو بايدن وإعادة النظر في الكثير من سياسات ترامب، وفي كل الأحوال فإن مياه كثيرة ستجري في النفق، لأن الثبات يعني التغيير حيث يصعب بعد ذلك تغيير أو التخلص من آثار ونتائج ثماني سنوات من التوجهات الأمريكية حيال قضايا معينة، كما أن التغيير لا يعني بدوره شطب آثار ونتائج السنوات الأربع الماضية من علاقات الولايات المتحدة مع العالم بجرة قلم!

لا أقول أن عالم مابعد الثالث من نوفمبر سيختلف عما قبله، ولكني اعتقد أن اموراً كثيراً ستختلف سواء بالثبات (حيث الثبات في هذه الحالة يعني تغيير ذهنية من عاشوا ينتظرون لحظة اعلان فوز البديل) أو التغيير .