تستخدم المقاطعة الاقتصادية كعقوبة مؤلمة تفرضها الدول و الأنظمة للحصول على مكتسبات سياسية و تحجيم قدرة العدو على التسلح أو التفاوض أو التطور. و الدول التي تتخذ خيار المقاطعة تدرس خسائرها و مكتسباتها هي نفسها من هذه المقاطعة فالمقاطعة الاقتصادية ليست لعبة ولا يوجد أي منطق في استخدام سلاح المقاطعة الاقتصادية اذا لم يكن محققا للهدف المنشود.

قاطع العرب البضائع التركية بعد تصريحات الرئيس التركي و هي تصريحات قال فيها بكل وضوح ( أن دول المنطقة لن يكون لها وجود بعد سنوات من الآن ) و مع سذاجة هذا التصريح إلا أنه جاء بمثابة إعلان للحرب تلقاه العرب بوعي كبير فبدأوا باستخدام سلاح المقاطعة لإضعاف عدوهم و منعه من التسلح و التقدم السياسي داخل تركيا . و رأينا أثر ذلك التراجع الاقتصادي على تركيا و مكانة الحزب.

لكن الوضع مع فرنسا مختلف تماما و استخدام المقاطعة الاقتصادية في الحالة الفرنسية هو استخدام عاطفي لا يخلو من خدمة نقدمها للعدو التركي الذي يعلن نفسه كمتحدث باسم المسلمين فيطلق الشعارات النارية على فرنسا صباحا ثم يغازلها مساءا . انها سياسة العصا و الجزرة يستخدمها النظام التركي مع فرنسا كمناورة سياسية يحاول فيها ترميم صورته و اعادة التموضع و توزيع الادوار كما يعمل على تسويق نفسه مجددا بين الشعوب المسلمة مستغلا كعادته عواطف المسلمين تجاه دينهم و نبيهم . لقد مارس علينا الإخوان اكاذيبهم قرابة نصف قرن و كم هو مؤسف أنهم مازالوا قادرين على حشدنا و استخدام مشاعرنا .

و بعيدا عن ألاعيب تركيا و الإخوان دعونا نضع المقاطعة مع فرنسا في ميزان الربح و الخسارة . و لنبدأ بالسؤال المهم . ماهو الهدف ؟ أليس هدفنا هو ان يحترمنا الفرنسيون و ان يحترموا ديننا و نبينا و مقدساتنا؟ و أن يكفوا سخريتهم و استهزاءهم !

إنه هدف مشروع و استحقاق للمسلمين كشركاء في الحياة على هذا الكوكب. و لكننا للأسف نسلك الطريق الخاطيء تماما لتحقيق هذا الهدف .

لقد جرت أحداث مروعة بدات بقتل المعلم الفرنسي على يد مهاجر مسلم تلا ذلك جريمة نيس النكراء و تزامن هذا كله مع الدعوات للمقاطعة الشعبية في العالم الإسلامي . ما هذا الذي نفعله؟! باختصار نحن ندخل بأقدامنا إلى دوامة العنف رغبة منا في إقناع العالم بأننا دعاة خير و سلام!! نحن بلا خطة ، نحن فقط جزء من خطط الآخرين .

الرسوم المسيئة هي ( فكرة ) و ليست صاروخا او دبابة . و الفكرة تقارع بالفكرة و الجدل الفلسفي حول الإسلام و النبي سيتحول إلى صالحنا ان جعلناه ضمن خارطة اتصالنا الثقافي مع العالم . علينا أن نفهم تركيبة العقل الغربي الذي تشكل على نمط جدلي عبر قرون من تعاطي الأسئلة و تجاوز المقدس و كسر الحواجز ، و بالمقابل على الغرب أن يفهم النمط الفكري للمسلمين و هو نمط تشكل من خلال التلقي و التسليم للمقدس و الانحياز لوحدة الجماعة و عدم الانقطاع عن الاسترشاد بالموروث.
هكذا نحن و هكذا هم .. عقلان مختلفان على أننا لسنا في مجال نقد اي من النموذجين بل في مجال القراءة و التشخيص.

دعونا اذا نؤسس لأرضية مشتركة للتعاطي الانساني و نقدم للعالم دعوة السلام و المحبة من خلال تاريخ النبي المعلم و أفعاله فقد كانت نموذجا للسلام و نبذ العنف و التسامي عن الانتقام لشخصه . لنقرأ قصته مع أهل الطائف او مع الطلقاء في مكة او مع أحبار اليهود و غيرها من الأحداث . لنروي جانبنا من القصة بلغة العالم اليوم . من خلال الفنون و الموسيقى و المسرح و الملتقيات الفكرية.

لنخبر العالم عن تلك الأيام الصعبة التي عاشها المسلمون و الخيارات التي كانت متاحة أمامهم و طبيعة التحديات التي واجهتهم . و لننطلق دائما من فكرة ان التاريخ الإسلامي بما فيه من شخوص و رموز ليس ملكا لنا وحدنا بل هو جزء من حضارة العالم و ذاكرته و فكره ، الإسلام ليس طلسما او مذهبا سريا بل هو مدرسة فكرية عريقة و محترمة و مؤثرة و لا خيار أمام المسلمين إلا أن يتعاطوا بإيجابية مع تساؤلات الآخرين و انتقاداتهم و مراجعاتهم .

ان اتباع العنف و التحريض و القتل هو تأكيد للتهمة لا نفي لها. فضلا عن انه ورقة سياسية نمنحها طواعية لتجار الأزمات و الشعارات. و مع خطورة كل ما سبق فهو ايضا طوق عزلة يضرب على حياة المهاجرين و اللاجئين المسلمين في الغرب. و قد يكون مسوغا لاضطهادهم او سببا في تنامي العنف المضاد تجاههم .. نحن إذا أمام خيارين لا ثالث لهما فأما سلام شامل و أما عنف شامل .