يربطنى بالعميد أننا أبناء منطقة واحدة فالصعيد الأدنى كان قصب السكر وتصنيعه هو محصولها ونشاطها الرئيس،وكما كان الشيخ حسين موظفا فى شركة السكر (فابريكة مغاغة) كان جدى ذكرى افندى كبير كتاب فى شركة السكر (فابريكة الشيخ فضل )، والمسافة بينهما ربما تزيد قليلا عن الكيلومترات العشره،ولكن أهم مايربطنا وأعظمه هو أنه استاذى الأول أستاذى الذى لم أره، فبينما كنت فى حصة المكتبه فى مدرستى الاعداديه وكنا فى أوائل الستينات وقع بصرى على غلافه (الأيام) ولازلت اذكر أننى التهمته التهاما،وفتح الرجل الكفيف عيناى المغمضتان على عوالم لم أكن أحلم بارتيادها،عوالم انطلاق الروح الى آفاق رحبه رغم القيود والأصفاد،عوالم التمرد على الواقع والاستكانه والتسليم بأقدار وهمية،عوالم اكتشاف مالا تراه الأعين والقدرة على وصف ما يعتمل فى الصدور،عوالم تجليات العقل البشرى عندما تنفتح البصائر.

وفى الخامسة عشرة حول الرجل مسارى الفكرى مائة وثمانون درجة من أرسين لوبين وهولمز اليه والى بقية حبات عقد اللؤلؤ نجوم عصره الحكيم ومحفوظ وحقى وادريس وعوض و.و.و، شئ آخر يربطنى بالرجل فعندما قرأت مقدمته لكتاب على عبد الرازق عن أخيه مصطفى عبد الرازق صديقه الوفى تذكرت أننى ولدت على بعد أمتار من قصر آل عبد الرازق فى مسقط رأس أمى التى لاتبعد عن قرية طه حسين سوى بضع كيلومترات الى الشمال،ولما كبرت والتصق بى طبع متمرد منذ حداثتى تذكرت أننى ابن بيئة هؤلاء رواد عوالم المتمردين،وأى تمرد فلقد ألقوا أحجارا ثقيلة فى بركة مياه آسنه فاهتزت بعنف وانزعج قاطنيها من أى حراك قد يسمح لحزمة ضوء تنفذ الى قيعانها ويوقف نمو طحالبها السامة،لذا هاجت عليهم كل كائنات البركة والبرك المجاورة من أعداء الضوء والحركة، وتكالبوا عليهم علهم يسكتون أو بالأحرى يسكنون لكنهم قاتلوا بشراسة حتى الرمق الأخير،وان كان وصف المتمردين وصفا حادا فلا بأس من وصف المجددين وان كان المجددون يجب أن يكونوا متمردون بالضرورة فلا تجديد دون تمرد على واقع، فالأول مصطفى عبد الرازق كان شيخ للأزهر ولكن ليس كأى شيخ كان الرجل محبا للفن والموسيقى والتشكيل والفلسفة والأخيرة كان باعه فيها طويلا لم يضاهيه فيها أحد ممن سبقوه أو ممن خلفوه ولا زال تعبير الفلسفة الاسلاميه مرتبطا باسمه حتى اليوم ونال بالطبع ما يكفى من اللوم والتقريع لا لسبب سوى أنه انسان أعمل عقله واستفتى قلبه وضميره الحى فيما هو الحرام والحلال.

أما الثانى فهو أستاذى الذى سبق ودفع ثمنا باهظا للجهل والتخلف وهو عيناه فقد أعمل عقله فى محاولة لفتح بصائر أمه بأكملها توقف نموها الفكرى والثقافى والعلمى منذ قرون، فقد خاض فى المحظور الموروث الذى لم يجرؤ أحد ممن سبقوه على الخوض فيه أو حتى الاشارة اليه،وتكالب عليه كل المنتفعين من مياه البرك الآسنه حاكموه وشتموه وسبوه وكفروه لكن المقاتل العنيد ظل شامخا فى مواجهة هذه العواصف الهوجاء ولم ينحنى ولا أعتقد أنه غير أى من آراؤه حتى مات.

أما الثالث شقيق الأول القاضى الأزهرى الجليل خريج أكسفورد على عبد الرازق فقد روع الجميع وصدمهم بما لم يتوقعوه ولا يتمنوه، فقد أعلنها واضحة صريحة جليه أن الاسلام رسالة روحيه فى مقامها الأول، أما استغلاله للوصول الى كرسى حكم أو مغنم سلطة أو غيره من الأهداف الأرضيه فهو هدف خبيث ووسيلة دنيا للألتفاف على المقصد الالهى السامى للعقيدة الذى هو خدمة الانسان وليس حكمه والتسلط عليه،هكذا أعلنها العالم الفقيه دون مواربه فبهت الجميع وانهالوا عليه كما انهالوا على طه حسين سبا ولعنا وتكفيرا.
هؤلاء الثلاثة هم رواد عظام من رواد التمرد والتجديد فى القرن المنصرم، وقد تجاسرت واعتبرت نفسى من زمرتهم وان كان مانالنى لا يقارن بما ناله هؤلاء من ظلم واجحاف وهو الثمن الحتمى لمن يحاول التجوال فى عوالمهم عوالم المتمردين.