نعيش بلا شك في تونس عصر نهاية المنظومة القديمة بكل ما يحمله من شبكات مافيوزية مع المال والإدارة والسلطة، هذا الاخطبوط الذي عطل كل عملية تغيير في مراكز القوى القائمة وإعادة توزيع الثروة على أساس العدالة الاجتماعية. كانت العشر السنوات التي تلت الثورة كفيلة بتهرئة مراكز النفوذ من الداخل وبروز مراكز أخرى على هامش المركزية المفرطة.

يوجد طبعا وفي كل الأوقات والظروف، من يستثمر لآخر رمق في الازمات واشعال نار الفتة وتصوير الوضع وكأنه انهيار كلي للدولة نتيجة الاحتجاجات المتكررة وتعطيل مراكز الإنتاج والعمل.

الحقيقة "التحتية" هي خلافا لذلك تماما، هي رد فعل طبيعي لمجموعات الضغط المقربة من مراكز الحكم على امتداد التاريخ المستأثرة بخيرات البلاد عن طريق ما يوصف بالاقتصاد الريعي الذي يدور في فلك خمسين عائلة نافذة كان تحدث عنها سفير الاتحاد الأوروبي السابق في تونس عندما عاين وشاهد كيف تعرقل هذه اللوبيات كل مبادرة اقتصادية شبابية من شأنها تهديد او حتى التقليص من هامش ربح ونفوذ الحيتان الكبيرة.

بعد عشرة سنوات من الثورة، تبين للتونسيين زيف وفساد النخب السياسية والاقتصادية القائمة التي استثمرت في السياسة والاعلام لتحصين مواقعها بعد هزات السنوات الأولى من الثورة. اصبح الفاسدون الآن يصادقون على القوانين التي تُحصن مصالحهم والدوائر القريبة منهم مما دفع بالسواد الأعظم من التونسيين وخاصة المهمشين و المعطلين في الجهات النائية الى الانتفاضة والاحتجاج ضد هذه الطبقة السياسية برمتها حيث تشير الأرقام الى ان اكثر من سبعين بالمائة من المستجوبين يرون ان الطبقة السياسية الحالية لا تُعبر عن تطلعاتِهم.

لم تستثمر الطبقة السياسية في البرامج وإيجاد الحلول و انما سعت كل الأطراف وبقوة الى التمكن من السلطة ومن مفاصل الدولة وبالتالي إعادة انتاج نظام استبدادي في شكل ديموقراطي او ما يسمى بدكتاتورية الديموقراطية أدت في نهاية الامر الى انهيار كلي للمالية العمومية وارتفاع المديونية و الفقر و البطالة وانسداد الآفاق الخارجية نتيجة غياب إصلاحات جدية طال انتظارها من الدول و المانحين الدوليين.

لحسن الحظ ان هذا الانتقال الديموقراطي الرث كما وصفه احد قيادي حركة النهضة الإسلامية، دفع بالمنظومة القديمة الى التآكل و التقاتل تماما مثلما حدث بين افراد عصابات المافيا في إيطاليا بداية التسعينات و الذي كان السبب الرئيسي للقضاء عليها.
ان تآكل المنظومة القديمة كان نتيجة حتمية لغياب هامش التحرك من جهة، نتيجة للازمة الاقتصادية، وتحرك الجهات من جهة أخرى في اطار ما يسمى بالديموقراطية التشاركية التي ينص عليها الدستور و تشريعات ما بعد الثورة.

شكلت هذه الديموقراطية التشاركية فضاءا حواريا جديدا غير تقليدي، اقصت منه المؤسسات التقليدية للتفاوض والوساطة والفاعليين المحليين المتعودين على السمسرة والانتهازية، ومن هنا انطلق التشكيك في هذا المسار التفاوضي والتخويف من انهيار الدولة وتفكك المجتمع والحال ان الدولة بشكلها ومفهومها التقليدي المركزي انهارت مع انهيار الاتحاد السوفياتي واصبحنا نتحدث الان عن الدولة "السائلة" العابرة للقارات وعن دور مركزي للمجتمع المدني والاعلام الجهوي والمحلي والمجالس البلدية التي اخذت مكان الأحزاب السياسية حتى صلب الدول الديموقراطية ذات الاقتصاد القوي.

ان الصراع القائم الان في تونس هو بين عناصر المنظومة الفاسدة ذاتها التي بدأت في "اكل اصابعها"مثل الاخطبوط المريض، وبين اشكال جديدة من التنظم والتحرك تسعى لأن تأخذ حصتها من التنمية والثروة التي استأثرت بها هذه العائلات النافذة وامتداداتها في الإدارة والسلطة والبرلمان طوال عقود من الزمن.

يكشف تسريب لشكايات بين قاضيين من اعلى الرتب في التسلسل القضائي بتُهم الفساد والتستر على قضايا إرهابية، وما سبقها من أحداث تتعلق بنتائج تحقيقات محكمة المحاسبات بشأن الانتخابات التونسية وتدخل المال الفساد والأجنبي وتوظيف الاعلام في مجراتها الى جانب فضح ادخال نفايات سامة بغاية دفنها في الأراضي التونسية، كلها احداث ومتغيرات تكشف ان أوراق التوت بدأت في السقوط بسرعة الخريف لتعري عورة النخب السياسية والاقتصادية الفاسدة. نحن اذن حسب اعتقادي في المرحلة الثانية من الثورة وهي مرحلة الارتداد ليس على الثورة وابناءها كما حصل طوال العشر سنوات الماضية وانما نحو نهاية المنظومة القائمة عبر تقاتل المجرمون من أجل الربح والعمولات وصحوة الجسم القضائي المعتل والعليل الذي هو رأس حربة في مقاومة الفساد. لذا يجب استغلال اللحظة مكان اليأس والشعور بالهزيمة لأن المافيا أو الأخطبوط حسب السردية التاريخية ينتهي دائما بالتهام اصابعه.