قرار جديد، وبوابة جديدة للمستقبل، توطين العلم والعلماء في الإمارات. هكذا انطلقت الدعوة من البلد الصحراوي الذي كان يشرب ماء البحر المالح، فأصبح يشرب ماء زمزم الرقاق بالتكنولوجيا. ويدخل العالم من بوابة الجيل الخامس. ويتحدث للعالم من سطح برج خليفة اعلى برج في العالم. ويسافر مواطنيه بكبرياء بجواز سفر هو الأول في الكرة الأرضية قوة وقيمة. ويوطن المعرفة والسيلكون والتكنولوجيا الرقمية. ويسافر إلى كل الدنيا بطيران الإمارات حلم القرن الواحد والعشرين. ويستقبل الجزء الأكبر من موارد العالم في موانيه الجبارة التي تعمل بالأقمار الصناعية.

هنا الإمارات، بلد توطين العقول والمعرفة، حيث الإنسان يعيش في بيئة التسامح والسعادة. خلية نحل لا تهدأ بالعمل والتنظيم والابتكار. فلا تعيقه المحن والكوارث والفيروسات والحروب والأزمات المتوالية عن التوقف للراحة. فهو يسير بأرجل من حديد، وتزداد طاقته بالأزمات ويكبر بها. سبحان الخالق أن يمنح هذا البلد نعمة الأمان في هذا الجو المغبّر بتلوث الحروب والأمراض، ويزداد تحديا لمواجهتها بعقل العلم.

ليس اعتباطا، أن يكون بلد مثل الإمارات بثقله وابتكاراته أن يصدر قانونا قويا بهديره المدوي في توطين علماء الأمة. وأن ينشئ مستعمرة للعلماء تتكون من خلايا العلوم المختلفة في المستشفيات والجامعات ومراكز البحوث والابتكار. هو العلم في اعلى تجلياته في تعزيز تنافسية جذب العقول المبتكرة، وتأسيس مختبرات بشرية لصنع الأبداع، وتعزيز تنافسية الاقتصاد، وتمكين بيئة الأعمال الجاذبة للاستثمار والارتقاء بجودة البنية التحتية، ورفع مستوى الخدمات التعليمية والصحية، وتعزيز مستويات السعادة وجودة الحياة. هذه هي فلسفة الدولة في البقاء حيّة وديناميكية في منظور استشراف المستقبل وتحدياته وتداعياته المستمرة.

توطين العلماء في بلد الإمارات هي خطوة على الطريق الصحيح. وصياغة لمفهوم جديد في المنطقة العربية لاحتضان الكفاءات العربية والتخصصات النادرة. وهي تعني بناء منظومة علمية لتأسيس عناصر قوة تدفع بالدولة إلى المستقبل: بناء مجتمع آمن ومتلاحم محافظ على هويته، وقضاء عادل، واقتصاد معرفي تنافسي، ونظام تعليمي رفيع المستوى، وبيئة مستدامة، وبنية تحتية متكاملة، وممارسات عالمية في مجال التخطيط الاستراتيجي. وطاقة متجددة وتنمية مستدامة. وهذا هو سر صدور القرار التاريخي في توطين العلماء ومنحهم إقامة ذهبية لمدة عشر سنوات كخطوة أولى لحملة الدكتوراه والأطباء ومهندسي الحاسب الآلي والإلكترونيات والبرمجة والكهرباء والتكنولوجيا الحيوية، والشهادات التخصصية في الذكاء الاصطناعي وخبراء الأوبئة والفيروسات، بالإضافة لأوائل الثانوية العامة في الدولة وأسرهم. لذلك قالها بصدق وثقة الشيخ محمد بن راشد وهو يعلن هذا القرار: نريدكم يا أصحاب العقول والمواهب معنا في مسيرة التنمية والإنجازات.

كنا نقول قبل عشرات السنوات بالفم المليان، بأن الكفاءات العربية وأصحاب الخبرة حرام أن تغادر بلدانها الملوثة بالحروب والقتل والفقر إلى الغرب وأوربا. ولدينا في الخليج تجارب تنموية رائدة، وبيئة لتوطين التكنولوجيا، هي الأحوج لهذه العقول العربية الجاهزة بالمعارف والخبرات، والمدججة بسلاح العلم والتكنولوجيا للدخول إلى عصر الخليج التنموي. فالشواهد كثيرة لا تحتاج إلى تنظيرات إلى ما فعلته هذه العقول العربية في الخارج بتأسيس منظومات علمية في مختلف فروع العلم والمعرفة. ولوبيات علمية في الجامعات والمستشفيات، ومراكز البحوث العلمية، ومصانع التكنولوجيا والفضاء والفلك. كما قاد العقل العربي الكثير من هذه المؤسسات بجدارة. وحصل البعض على جوائز نوبل، وجوائز عالمية مرموقة أخرى، وبراءات اختراع نادرة. وتفننوا بصنع المخترعات الجديدة لصالح بلدان التوطين. هل نسينا صرخة توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق القائل: كارثة كبيرة ستحل على النظام الصحي في بريطانيا إذا غادرنا الآلاف من الأطباء العراقيين!

أنظروا للكفاءات العربية، وبالذات العراقية التي تعيش في دول الخليج كيف تحترم من قادة بلدان هذه الدول، وكيف يعشّق أهل الخليج وصناع القرار الخبرات العراقية؟ هذا ما عايشته خلال العشرين عاما التي قضيتها في الإمارات. احترام كبير لأصحاب الخبرات العلمية، وعشق نادر من الشعب للكفاءة العراقية. فالعراقي ماركة مسجلة في الإمارات. فالمريض لا يستهويه العلاج إلا عند الطبيب العراقي. وصاحب المشاريع لا يعجبه إلا المهندس العراقي. والقارئ يسحره الكاتب العراقي وشعر الفلسفة والرومانسية ومناجاة الحبيب، وليس هناك أجمل لديه من أغاني الآهات العراقية الحزينة الطربية، بل لا يخجلون من القول بصراحتهم البدوية الصافية القول: أستاذ عراقي وبس! ومع كل هذا التقدير، هناك محبة لا توصف للهجة العراقية، حيث يتغازل بها أهل الإمارات عشقا كأنها أيقونة حياة، ويستمتعون فطريّا بمفرداتها، ويتغنون بها (هوايا حلوة عيني).

وهذا يرجعنا إلى حقيقة القرار وتوقيته.فبلد مثل الإمارات نجم العرب في التنمية والسعادة والتسامح يشعر اليوم أكثر من أي وقت آخر انه بحاجة إلى العقول التي تتكلم بالعربي وباللغات الأخرى، واحتضان الخبرات التي هجرّت من بلدانها إجبارا. فالعراق الذي كان يقصده طلاب العلم والعمل، على مدى الأزمان يهاجر أو يهجّر منه العلم والعمل على الرغم من الثروات والإمكانيات الهائلة التي يتمتع بها. فما عاد أمام الكفاءات العراقية إلا تطبيق شعار (الهجر خير من القتل!). كذلك حال الخبير العربي وصاحب الاختصاص والشهادة العليا الذي تمزّق بلاده الحروب والقتل أو الجوع والفقر.

نعم نريد الإمارات أن تكون وطنا للعقول العلمية العربية ومختبرا علميا لهم، بدلا من أن تنتقل هذه الخبرات إلى بلدان اجنبيه أخرى. فالأفضل لهم ولنا أن يكونوا بيننا علماء يستنطقون التنمية والنهضة بالعلم. وانا أعرف الكثير من يفضل حرارة الإمارات وصحاريها وجوامعها وبيئتها العربية أكثر من أوربا وجمال مناظرها الخلابة. أشعر بالحزن عندما يحدثني البعض عن مشكلات الحياة وتضارب القيم والعادات هناك. فالكثير منهم يذهب للحصول على الجنسية ليعود مرة أخرى للعيش في الإمارات!

نقولها بصدق، قرار الإمارات بتوطين العقول العربية قرار حكيم فيه سعة أفق الحاضر، وبصيرة قوية ذاهبة للمستقبل. قرار كانت تنتظره العقول العربية منذ زمن بعيد لتستنشق الهواء العربي.
هنا إمارات المستقبل... وطن العلم والتسامح والسعادة والابتكار وحكمة زايد الخير.