يتبارى الاعلام الموالي لتنظيمات التطرف والارهاب والدول الممولة لها في الترويج للفكرة القائلة بأن علاقات المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة ستشهد تحولات سلبية كبرى في ظل إدارة الرئيس المنتحب جو بايدن، ويستشهد هؤلاء على ذلك بتصريحات أدلى بها بايدن خلال حملته الانتخابية، ولكنني اعتقد ـ انطلاقاً من تحليل علمي دقيق للمتغيرات الحاكمة لهذه العلاقات الاستراتيجية ـ أن فترة ولاية الرئيس بايدن ستشهد تعزيزاً للتحالف القائم بين البلدين، ولن تطرأ عليها تلك التغيرات التي تنتمي إلى مربع التحليل بالتمنى وليس القائم على حقائق وثوابت تحكم العلاقات بين الدول.

المملكة العربية السعودية أعربت عن ثقتها في عدم حدوث تغيير في علاقتها بواشنطن بعد تولي الإدارة الجديدة، وتدرك جيداً أن مايثار ليس أمراً جديداً في علاقات البلدين، فكثيراً ما يأتي رؤساء من خلفيات ديمقراطية أو جمهورية، ويتحدثون خلال حملتهم الانتخابية عن أمور مماثلة في علاقات بلادهم مع حلفائها الاستراتيجيين التاريخيين، ولكن سرعان ماتتبدل الأمور عقب دخول البيت الأبيض والتعرف عن قرب إلى حقائق وثوابت هذا التحالف ومايقوم عليه من ركائز ومصالح مشتركة للجانبين، وهذا لا يعني أن الرئيس بايدن لن يحدث أي حراك في العلاقات السعودية ـ الأمريكية، ولكنني اتوقع أنه سيقوم بالفعل بإعادة تقييم الوضع وصولاً إلى صياغة معادلة جديدة للعلاقات التحالفية بما يظهر بصمته الشخصية وينطلق من رؤيته لهذه العلاقات من دون أن يقوم بتقويضها أو التأثير فيها سلباً لسبب بسيط هو أن هناك مصالح استراتيجية أمريكية لا يمكن المجازفة أو التضحية بها، كما أن المملكة ليست جمهورية موز كي ينقلب عليها الحليف الأمريكي بالشكل الذي يعتقده البعض، فالسعودية دولة اقليمية كبرى عضو بمجموعة العشرين وتمتلك الثقل الأكبر في تكتلات ذات تأثير بالغ في الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية، مثل منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك"، ومجموعة الدول العربية والاسلامية، ناهيك غن نفوذها الروحي لدى نحو ملياري مسلم، والذي تستمده من وجود الأماكن الاسلامية المقدسة بالمملكة.

جو بايدن سياسي محترف يمتلك مخزوناً هائلاً من الخبرة في العلاقات الدولية، وليس جديداً على السياسة الخارجية الأمريكية، فقد عمل نائباً للرئيس السابق باراك أوباما لمدة ثماني سنوات كاملة، وسيرته الذاتية تؤكد أنه يميل دوماً للتريث والتيقن من المعلومات قبل اتخاذ أي قرارات مصيرية أو مهمة، أو مؤثرة في المصالح الاستراتيجية الأمريكية، وبالتالي من المستبعد تماماً أن يغامر بالاقدام على أي خطوة سلبية تجاه المملكة قبل دراسة الموقف تماماً، وهذا ما يجعلني، كمراقب، على ثقة بعدم حدوث تحولات كبرى في مسار هذه العلاقة التحالفية بالغة الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة والمملكة على حد سواء، وهنا لا يجب أن ننسى تصريحات الرئيس ترامب، الذي يقال الآن أن المملكة خسرت برحيله حليفاً قوياً، حيث كان يتوعد خلال حملته الانتخابية بأمور سلبية عديدة ضد المملكة، ولكن ماحدث فعلياً أن الرياض كانت وجهته الأولى في رحلاته الخارجية!

لذا، علينا عند تقييم أي موقف في العلاقات الدولية أن نضع البيئة السياسية والاستراتيجية لاتخاذ القرارات في الاعتبار، كونها العامل الأكثر تأثيراً في توجيه دفة صنع القرار، ومن هذا المنطلق نستطيع فهم علاقات التقارب التي سادت بين واشنطن والرياض خلال فترة حكم الرئيس دونالد ترامب، ونفهم كذلك التباعد النسبي الذي حدث في الفترة الأخيرة من حكم الرئيس السابق أوباما، باعتبار أن الملف النووي الايراني كان المتغير الاستراتيجي الأكثر تأثيراً في حالتي التقارب والتباعد بين الحليفين، بمعنى أن تفهم الرئيس ترامب لمخاوف المملكة وبقية دول مجلس التعاون حيال التهديد الايراني، قد أعاد العلاقات إلى مسارها الطبيعي بعد تباعد قصير إثر تجاهل سلفه أوباما لهذه المخاوف وقيامه بالتوقيع على الاتفاق النووي الملىء بالثغرات مع ملالي إيران من دون أخذ وجهات نظر حلفائه الخليجيين بالاعتبار! وهذا يشير إلى ان الأمر لا علاقة له بالمصالح أو العلاقات الشخصية بقدر ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصالح الدول والشعوب، فالعلاقات الشخصية تقوي إذا حدث توافق في مصالح الدول والشعوب، ولكنها لا تمضي كما يراد لها في حال تنافر هذه المصالح وتباعدها، صحيح أن العلاقات والكيمياء الانسانية تلعب دوراً مهماً في العلاقة بين القادة والزعماء ولكن يبقى هذا الدور مرهون بوجود قاعدة مصالح مشتركة يرتكز عليها ولا يتنافر معها، ولنا في علاقات الرئيس ترامب مع قادة مثل الرئيس الروسي بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، مثالاً بارزاً على ما ذكرت، فهناك توافق شخصي حدث بين القادة خلال لقاءات قمة مختلفة جمعت الرئيس ترامب بكل منهما على حدة، ولكن هذا التوافق لم يستطع القفز على الهوة الناجمة عن تباين المصالح بين واشنطن وكل من موسكو وبيونج يانج.

في الأخير، يمكن القول أن المملكة العربية السعوديية دولة اقليمية كبرى ولاعب اقليمي ودولي لا يمكن تجاهله ورقم صعب في رؤية القوى الكبرى لأدوارها في منطقة الشرق الأوسط، ولديها خبرة تاريخية عميقة بالعلاقات الدولية، وتستطيع التعامل مع سيد البيت الأبيض سواء كان ديمقراطياً أو جمهورياً، والولايات المتحدة هي القوة الأولى عالمياً والرئيس المنتخب جو بايدن يحمل شعار "أمريكا عائدة" وهذا يعني تعظيم التحالفات وشبكات المصالح الاستراتيجية لا تقويضها، وليس له أن ينفذ وعوده للناخب الأمريكي باستعادة مكانة الولايات المتحدة ونفوذها العالمي من دون دعم قوي من قوى اقليمية كبرى وحلفاء مهمين في مقدمتهم المملكة العربية السعودية، ومن ثم فالعلاقات السعودية الأمريكية ماضية في طريقها، والتاريخ يقول أن هذه العلاقات تغلبت من قبل على تحديات أعمق وأخطر، فالشركاء قادرون دائماً على ايجاد الصيغة المناسبة للمضي قدماً والتغلب على أي خلافات عابرة، وقد تتغير ـ وفقاً لذلك ـ التكتيكات والأدوات والآليات التي يستند إليها تحالف البلدين، ولكن المسار الاستراتيجي للعلاقات لن يتغير، فاللاعبين يتغيرون ولكن مصالح الدول والشعوب باقية.