"ولما قَدِمَ معاويةُ من الشام، وكان عمرُ قد استعمله عليها، دخل على أمِّه هند؛ فقالت له: يا بُنيّ، إنّه قلما ولدت حُرَّةٌ مثلَك، وقد استعملك هذا الرجل؛ فاعمل بما وافقه، أحببتَ ذلك أم كرهتَه. ثم دخل على أبيه أبي سفيان؛ فقال له: يا بني، إنّ هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا، وتأخَّرنا عنهم؛ فرفعهم سَبْقُهُم، وقصّر بنا تأخرُنا؛ فصرنا أتباعا، وصاروا قادة، وقد قلّدوك جسيما من أمرهم؛ فلا تخالفن أمرهم؛ فإنّك تجري إلى أمدٍ لم تبلغه، ولو بلغته لتنفَّستَ فيه..

قال معاوية: فعجبتُ من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ"
​هذا نصٌّ أورده الفقيه ابن عبدربه في العقد الفريد (ج1 ص14) تحت عنوان فرعي صغير "وصاة أبي سفيان وزوجه لابنهما معاوية حين عمل لعمر"..
​وعَجَبُ معاويةَ داخلٌ في الإعجاب، وتوجيه تلك النصيحة الأبوية المتشابهة، التي صدرت من الوالدين تقتضي أنّ الابن الموجَّه له ذلك النصح سيحفل به؛ فالوالدان _في هذا السياق_ عرفا أنّ ذلك الموقف يتطلب تلك الرسالة، ويؤيد هذا ما عُرِفَ عن الابن (معاوية) من حكمة وحنكة ورزانة...

وهذا النص يضمر طاعة حافظ عليها معاوية، واصطحبها أداةً مهمة في عمله، تحت رئاسة عمر بن الخطاب، كما يقدِّمُ النصُّ اعترافَ أبي سفيان بسبق المهاجرين... ويبقى هذا النص مشابها لأداء القسم، الذي يقدِّمه الأمراء والوزراء في حياتنا المعاصرة، عند تكليفهم بأعمال... ومعنى "تنفَّست فيه" الواردة في النص تعني: استرحتَ عنده، وهو ما حدث تاليا...

وفي كتابه "العقل السياسي العربي" يأخذ الجابري من دوبري مفهوم "اللاشعور السياسي" ويتصرّف بهذا المفهوم؛ مراعيا الفرق بين المجتمع الأوربي المصنِّع، الذي أصبحت في العلاقات الاجتماعية (العشائرية والطائفية) خلف العلاقات الاقتصادية المتطوِّرة (علاقات الإنتاج) بينما الأمر في المجتمع العربي _قديما وحديثا_ على العكس من ذلك؛ إذ العلاقات الاجتماعية ذات الطابع العشائري والطائفي تحتلّ موقعًا أساسيا بارزًا في حياتنا السياسية... وبناء على ذلك فإنّ دور هذا المفهوم _في تراثنا_ سيكون متمثلا في البحث عمّا هو سياسي في السلوك الديني والسلوك العشائري، داخل المجتمع العربي القديم منه والمعاصر؛ خلافًا لاستخدام دوبري لهذا المفهوم في إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي في المجتمعات الأوربية المعاصرة...

​وعودًا على أجواء النص الذي أقمنا عليه هذه المقالة أكاد أزعم أنّ معاوية اصطحب تلك النصيحة الأبوية الوالديّة، التي تتداخل مع ما أورده دوبري وحوَّره الجابري؛ فاستطاع معاوية تجاوز مشكلات كبرى في طريقه لتدشين دولته التي شكّلت نواة كبرى في تاريخ العرب والمسلمين...