قد يبدو ظاهرياً أن ما يشهده إقليم كوردستان وبالأخص مناطق محافظة السليمانية من احتجاجات مطالبة بالرواتب وتحسين المعيشة ومحاربة الفساد، هو امتداد لما يجري في المدن العراقية منذ شهور، وهو احتقان شعبي من الأوضاع المتردية التي تعيشها البلاد عموماَ، ولكن يغفل الكثير من المتابعين أموراً تجعل الوضع في السليمانية مختلفا تماما، فالمدينة وإن كانت تعرف بالعاصمة الثقافية للإقليم وهي أكثر انفتاحاً من المدن الكوردية الأخرى من حيث مستوى حرية التعبير والعمل السياسي والاعلامي والمجتمعي، إلا أنها ليست مركزاً للقرار السياسي والإداري في الإقليم ولا تتمتع بما لدى العاصمة أربيل مثلاً من تلك المزايا، وبالتالي فإن ما تمثله بغداد بالنسبة لجدوى المظاهرات دون المحافظات الأخرى، ينطبق على الحالة الكوردية أيضاً.

للسليمانية تجربة طويلة مع حالة الاحتجاجات والمظاهرات، بدءا بأحداث 17 شباط من عام ٢٠١١ وما بعدها عندما عمت الاحتجاجات مناطقها لأكثر من شهرين دون أن تؤدي إلى تحقيق المطالب التي اندلعت من أجلها، كما شهدت المدينة أيضاً مظاهرات مستمرة للمعلمين والموظفين خلال سنوات القليلة الماضية منذ أن عصفت الأزمة المالية بالإقليم نتيجة تعمق الخلافات بينه وبين الحكومة المركزية حول النفط والموازنة، وآخرها كانت الاحتجاجات التي اندلعت خلال الأيام القليلة الماضية والتي أدت إلى مقتل وإصابة العشرات من المحتجين وعناصر القوات الأمنية وحرق ونهب مقار حزبية ودوائر حكومية والإضرار بالممتلكات العامة والخاصة. كل ذلك لم يقدم أو يؤخر شيئا في تلبية المطالب الشعبية، لماذا؟

عند الامعان في الاحتجاجات التشرينية التي عمت المدن العراقية العام الماضي، نجد أن حدة بعض تلك الاحتجاجات والمظاهرات كانت أكثر في مدن غير بغداد العاصمة مثل النجف والناصرية والبصرة وغيرها، إلا أنها لم تساهم في تحقيق ما خرج المحتجون من إجله إلا عند تكثيفها في ساحات الاحتجاج في العاصمة وكانت النتيجة استقالة حكومة عبد المهدي واختيار الكاظمي لرئاسة الحكومة الحالية، وهي نتيجة لم تلخص جميع المطالب ولكنها مثلت خطوة متقدمة آنذاك، فكان للإصرار على البقاء في ساحات الاحتجاج في العاصمة جدوى كبيرة أكسبت المظاهرات ثقلاً وتفاعلاً للرأي العام الداخلي والدولي معها وبات تأثيرها بيّنا تلمسه الجميع وشهده القاصي والداني، فلو بقيت الاحتجاجات خارج العاصمة لكان الوضع غير ما نشهده اليوم.

المعادلة نفسها تنطبق على كوردستان، إذ ستبقى جميع الفعاليات الاحتجاجية دون تأثير ما دامت خارج أسوار العاصمة حيث مركز الحكم والقرار السياسي، فمتى ما تركزت الاحتجاجات أمام مبنى حكومة الاقليم والبرلمان سيصل صوت المتظاهرين إلى مسامع المسؤولين والجهات الدولية أسرع وسيكون له تأثير أكبر، فضلاً عن أن تركيز الجهود الاحتجاجية في منطقة معينة دون غيرها يضع علامة استفهام كبيرة عليها وقد توحي بوجود استهداف مقصود لجهات محددة ومدن بعينها دون الأخذ في الحسبان أن ما يعانيه المواطن الكوردي من زاخو إلى حمرين هو نفسها وليس هناك سبيل لمعالجتها إلا من المركز.

المضحك المبكي أن نواباً معروفين يحاولون استغلال هذه المعناة الحقة والمطالب المشروعة لمصلحتهم كدعاية انتخابية أملاَ في ركوب الموجة، فيتركون زملاءهم المعتصمين في أروقة البرلمان الكوردي ويهمّون بالسفر من قلب العاصمة التي من المفروض أن تنشدها الأصوات المحتجة، متوجهين إلى مدينة تبعد مئات الكيلومترات بذريعة نصرة المحتجين ودعماً لمطالبهم !! في نزعة شعبوية فيسبوكية قوبلت برفض واسع النطاق من الناشطين ومستخدمي شبكات التواصل وكانت مدعاة للسخرية والتهكم.

الأمر نفسه فعلته أحزاب تعتبر نفسها معارضة للحكومة في أربيل، ففي مشهد ينم عن نفاق سياسي فاضح تركت العاصمة التي تمثل مركز نشاطها السياسي وثقلها الانتخابي وركزت جهودها في تحريض المواطنين على الاحتجاج والتظاهر في نواحي وقصبات نائية وسخرت أبواقها الإعلامية في سبيل ذلك دون آبهة بمبادئها وأفكارها التي تملأ بها آذان المواطن ليل نهار.

يجد المواطن الكوردي نفسه حائرا بين التعبير عن معاناته وبيان مشاكله والدعوة لمعالجتها، وبين لعبة سياسية دنيئة يشترك فيها سياسيون انتهازيون وأحزاب منافقة لا تهمها سوى مكاسبها وما ستجنيه من تلك المعاناة والمطالب المشروعة.