كيف أصبحت أقوى دولة في العالم تحت القبضة الأمنية؟، وكيف تحولت العاصمة واشنطن إلى ثكنة عسكرية؟، وهل هي حرب أم تنصيب؟ وكيف خرج ترامب بلا لحظة وداع، وهو الذي ملأ الدنيا ضجيجاً لسنوات، ولن يجد شيئاً يوثقه في تويتر الذي عصف بحسابه، ولن يستمع إلى فلاش الكاميرات تطارده، أو هتافات المؤيدين تشجيه، بل على النقيض تماماً، إنه يكافح من أجل تفادي محاكمة تعصف بمستقبله السياسي، لكنه بالنهاية مجبر على ترك الديمقراطية قوية كما وجدها أول مرة، والعودة بحزن إلى صفة المواطن العادي، بينما يخطو غريمه بايدن أولى خطواته داخل البيت الأبيض خائفاً يترقب، فقد يقدم أحد مجانين السياسية على استهدافه، أما الدولة فلا شيء يشغلها أكثر من شبح اندلاع حرب أهلية بين أنصار الرئيس المغادر، والرئيس القادم.

من الطبيعي جداً، أن تخشى جميع أجهزة الدولة تقريباً من وقوع كارثة بشرية قد تتحمل تبعاتها خلال حفل ظاهره العرس الديمقراطي، وباطنه عذاب الاستقطاب السياسي، والأخطر من هذا، هو تنامي المؤشرات على حدوث اختراق داخلي للأجهزة الأمنية، سواءً من الموالين للرئيس المنصرف، أو اختراق خارجي من عملاء لروسيا والصين، ويعزز الفرضية الأخيرة القبض على متظاهرة تدعى رايلي ويليامز، ظهرت في مقطع فيديو وهي تغادر الكونجرس بعدما سرقت اللابتوب الخاص برئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، وبحسب التحقيقات الأولية، فإنها كانت تخطط لبيع لابتوب بيلوسي للاستخبارات الروسية.

قطعاً، لا توجد ثقة في أي أحد الآن حتى ولو كان منتمياً للمؤسسة الأمنية أو العسكرية، والقاعدة أن الكل متهم حتى تثبت براءاته، وهذه قاعدة بدأت تترسخ بعد تصريحات للمدعي العام الأمريكي أكد فيها وجود مؤشرات قوية على أن ضباطاً سابقين وحاليين، وربما خارج الخدمة شاركوا في واقعة اقتحام الكونجرس، وأن عدد القضايا الجنائية تضخم إلى 300 قضية، وقد وصل تفشي عدم الثقة لدرجة إخضاع ضباط الحرس الوطني المكلفين بتأمين مراسم التنصيب إلى فحص دقيق خشية من حدوث هجوم مسلح أثناء حفل التنصيب المقلق أمنياً، كما أرسلت وزارة الدفاع مئات الخبراء بالأسلحة البيولوجية والكيماوية والنووية والمتفجرات وفرق طبية إلى واشنطن.

هاجس الاختراق الأمني أجبر "البنتاجون" على نشر 25 ألف جندي في مختلف الولايات، مع 7 ألاف عنصر من الحرس الوطني، وهذا العدد أكبر بكثير مما تم توفيره لتأمين حفلي تنصيب ترامب وأوباما مجتمعين، وطال التشديد الأمني الجسور المؤدية إلى واشنطن لثمان وأربعين ساعة من الثلاثاء وحتى الخميس، وفتحت أربعة لجان في مجلس النواب هي المخابرات، والرقابة، والقضاء، والأمن الداخلي، تحقيقاً داخلياً لمعرفة أسباب الفشل الاستخباراتي والأمني في التصدي لاقتحام الكونجرس، وجهود تأمين حفل تنصيب الرئيس، ومن بين الأسئلة التي أرسلها الكونجرس لجهاز الاستخبارات: هل كان هناك دعم من دول أجنبية؟، وهل حاولت دولاً أجنبية استغلال التمرد لصالحها؟، وهل تورط أحد أفراد الأمن في الاقتحام؟، وما مدى تعاون الأجهزة الأمنية معلوماتياً قبل الاقتحام؟

رئيس الدولة أيضاً لم يكن بعيداً عن الهاجس الأمني، فقد كان في الزمان والمكان المحددين، فقد اضطر إلى تبديل جميع طاقمه الأمني في الحرس الرئاسي، مخالفاً ما جرت عليه عادة الرؤساء السابقين من الاكتفاء ببعض التغييرات الجزئية، باعتبار أن الجهاز بطبيعته غير مسيس، كما ألغي بايدن بروفة التنصيب التي كان مقرراً لها الأحد الماضي بسبب التهديدات التي تلقاها هو وفريقه الرئاسي، فيما تعهد جيف روزين القائم بأعمال وزير العدل بمواجهة حاسمة مع مثيري الشغب وأعمال العنف أثناء حفل التنصيب، والتي تقودها حركة بوجالوا العنيفة المسلحة.

تاريخياً، وقبل مجيء ترامب للسلطة في عام 2016، كانت هناك ميليشيات متطرفة ومسلحة، مثل براود بويز، وبوجالو، وكلوكس كلان، لكنها ظلت كقنبلة موقوتة، مدفونة تحت الرماد، بفضل القوانين المكبلة، ونأي السياسيين عن التعاطي معها، إلا أن هذه الميليشيات شهدت انتعاشة مفاجئة ودعماً من ترامب، الأمر الذي يضع الولايات المتحدة أمام سيناريو الفوضى الأهلية، حيث يؤمن مؤيدو ترامب من اليمين المتطرف بنظرية "كيو أنون"، أو المؤامرة، والتي تم تداولها على نطاق واسع منذ أكتوبر 2017، ويزعم هؤلاء بأن ترامب يخوض حرباً مقدسة ضد عبدة الشيطان الذين يسيطرون على الحكومة والاقتصاد والإعلام، وهو يعمل بالسر مع علماء لإيجاد علاج للسرطان، وأنه بمثابة النبي المُرسل، والغريب أن بعض أعضاء الكونجرس يؤمنون بهذه النظرية المثيرة للضحك.