النفاق يعني أن يظهر الشخص عكس ما يضمر، وأن يكون لسلوكه هذا سبب وغاية يختلفان عن سلوك المجاملة.

التحليل السيكولوجي لسبب نفاق المثقفين هو - في الغالب - الخوف من السلطة الحاكمة، فيما الغاية تكون تأمين حياة او مصدر رزق واسعاد حال، أو سلطة او تماهي بالسلطة. ويبدو ان بداية تحول نفاق المثقفين في المجتمعات العربية من حالات محدودة الى ظاهرة اجتماعية، كانت بسبب تحول الدين الإسلامي الى سلطة، مع ان الدين الاسلامي تحديدا هو الذي نبّه الى خطورتها الاجتماعية وفصّل في رذائلها الأخلاقية. قال تعالى: "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا".

هناك فريق من المثقفين المنافقين الذين يظهرون للسلطة عكس ما يخفون، يتوددون لها طمعا في سلطة أو مال أو جاه أو دفعا لشرّ يتوقعونه. ومن هذا الفريق ظهر اشخاص طمعوا في مناصب بالسلطة وامتيازات بالثروة. اجادوا لعبة النفاق بأن جعلوا من الحاكم الدكتاتور شخصية كاريزمية واستثنائية، يتوجب على الناس طاعتها والقبول بها والرضا عنها. وكان اخطر هؤلاء المنافين اولئك الذين احتلوا وسائل الاعلام، لا سيما رؤساء تحرير الصحف والفضائيات والاذاعات، وكتّاب المقالات ومعدي البرامج السياسية، وشاع هذا على صعيد الأنظمة العربية قبل ثورات الربيع العربي بوقت طويل وإلى وقتنا الحاضر.

العلاقة بين الأنظمة العربية الشمولية والمثقفين أفرزت ثلاثة أنواع من المثقفين المنافقين: مادحون، ومعارضون، وموظفو ثقافة، كان أغلبهم في حالة اغتراب مع الثقافة ومع أنفسهم ايضا. ومن مهمات المادحين تجميل الوجه القبيح للسلطة، وتبرير التجاوز على الحريات، والسكوت عن جرائم البوليس السّري وأجهزة المخابرات. ومع أن معظم المادحين الذين سيطروا على وسائل الثقافة الرسمية (صحافة وإذاعة وتلفزيون) حظوا بالامتيازات، إلا أنهم كانوا يدركون أن مهمتهم لا تختلف عن مهمات الشعراء في العصرين الأموي والعباسي حيث كان مدح الحكام وسيلة للارتزاق والحصول على المزايا المادية والعينية، وتقلد المناصب الوظيفية.

إن شيوع النفاق مرتبط بالفلسفة السياسية التي يتبناها الحاكم وكيفية حكمه، ونوعية الأدوات التي يعتمدها نظام السلطة في إدارة شؤون البشر، والتحديات التي تواجهها السلطة السياسية. وفي الواقع العربي نجد ثلاثة نماذج من المثقفين. (1) فئة المسالمين الذي ينظرون للسلطة على أنها مصدر أذى وإزعاج، والابتعاد عنها أسلم وأكثر أمنا. (2) فئة المعارضين الذين يقفون في وجه السلطة السياسية، وينتقدون أدائها ويكشفون عيوبها وقصورها، ويطالبون بحقوقهم وحقوق العباد. (3) فئة المنافقين الذين يظهرون للسلطة عكس ما يكتمون، ويدلسون طمعا في السلطة أو المال أو الجاه. ومن المنافقين من يبالغ في التمجيد لدرجة تجعل من الزعيم الحاكم الديكتاتوري شخصية كاريزمية استثنائية، يجب على الناس طاعتها والقبول بها والتسليم بأقواله وأفعاله. ونجد أمثال هؤلاء المنافقين في كل مكان على امتداد خارطة العالم العربي، يتصدرون وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة.

هناك نوع من المثقفين - وهم كثر هذه الأيام - يميلون حيث تميل بهم رياح المال والجاه والسلطة، لا يقيمون وزنا لمبدأ طالما تغنوا به وأظهروا الدفاع عنه، وأكدوا أنهم يفدونه بأرواحهم، وقد أثبت الواقع أنهم من أكثر الناس وقاحة وكذبا وسعيا وراء شهواتهم المادية والمعنوية. وهذا الصنف من مثقفي السلطة لا يظهرون إلا في الأزمات التي ترفض المواقف الرمادية التي تعودوا عليها سنوات طوال، فإما أن يكونوا معها وإما أن يكونوا ضدها، ولأنهم من باعة المبادئ فإنهم دائما ينحازون لما يطلب منهم مادام هناك مشتر يدفع الثمن.

إن مواجهة النفاق ومكافحة المنافقين تقتضي بالضرورة تمزيق الأقنعة الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية التي يرتديها هؤلاء المنافقين، وهذا يتطلب توفير أجواء من الحريات العامة، وحض الناس على الإفصاح بكل حرية عن أفكارهم، وتحفيزهم على التعبير عن معتقداتهم وقناعاتهم، واحترام ما يقولون دون تدخل من أي طرف، ودون خشية من عقاب لاحق. والقضاء على النفاق لا يتم إلا في بناء دولة المواطنة الحقيقية، دولة المؤسسات التي تضمن الحقوق الرئيسية لجميع المواطنين بشكل عادل دون تمييز، وبناء وتعليم ثقافة الاختلاف واحترامها لدى الشعوب، والنظر بجدية في المناهج والقوالب والأنماط التعليمية، بهدف ردم الفجوة الثقافية المجتمعية بين ما نفكر وما نقول ونفعل.

إننا قد لا نستطيع أن نطالب كل المثقفين بأن يكونوا شجعانا ويجهروا بمواقفهم، وقد نقبل منهم أن يلتزموا الصمت توقيا لأي مخاطر يتوقعونها، لكننا لا نقبل منهم بأي حال أن يصبحوا أعوانا للاستبداد، لأنهم بذلك لا يخونون أماناتهم فحسب، ولكنهم يفقدون شرعيتهم أيضا. قد يعذر المكره والمضطر، لكن المثقف الذي يتطوع لخدمة الاستبداد لا عذر له. وإذا لم يكن بمقدوره أن يكون شريفا يجهر بالحق وينحاز إلى صف الجماهير المغلوبة على أمرها، فإن ذلك لا يسوغ له أن ينبطح ويصبح خادما للسلطان الجائر.